النظام الدولي.. بعض جوانب سباق القمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مناظرة حول مستقبل التنافس على الريادة العالمية، جادل مشاركون بأن مظاهر حضور وتغلغل وانتشار نفوذ ومصالح الأقطاب المرشحة لشغل مكانة رفيعة على قمة النظام الدولي، وفي طليعتها روسيا والصين، لا تقاس بما تستحوذ عليه القوى الغربية على الصعيد العالمي بعامة، ولدى مجتمعات الجنوب بخاصة.

يقوم هذا الطرح على منطق سديد وبراهين دامغة، لا سيما في ما يتعلق بعناصر القوة الناعمة، كاللغات والمعارف والتفاعلات التاريخية الثقافية، بأبعادها العلمية والفنية والأدبية، ومفردات التواصل الاجتماعي، والتشبيكات الاقتصادية والسياسية ونظم الإدارة، من دون استثناء أدوات الحياة اليومية، وما يتصل بها من متاع وتقنيات وأجهزة.

وفي هذا السياق، ثمة أسئلة يمكن إثارتها والتأمل في مغازيها، من قبيل الاستفهام عما تحتويه الشوارع والمتاجر والبيوت العربية، مثلاً، من منتجات صناعية روسية، مقارنة بنظيراتها الأمريكية أو الأوروبية المصدر؟.. وعن عدد القطاعات المجتمعية التي بوسعها التحدث باللسان الروسي أو الصيني، خارج روسيا والصين، مقارنة بتلك التي تجيد في طول الدنيا وعرضها، التخاطب بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية، بل وتعتمدها كلغات أولى أو ثانية في معظم مناهجها التعليمية؟!

تفسير هذا التفاوت، الذي يرجح بقوة كفة عالم الغرب، أمر شرحه يطول، وموجزه على ذمة الأدبيات ذات الصلة، أن التاريخ يزخر بسير الرحالة والمستكشفين والمغامرين والتجار وعلماء الآثار والأنثروبولوجيا واللغويات، والمستشرقين والمستغربين، الأخيار والفجار، الذين انطلقوا من الغرب، وجابوا أصقاع الدنيا، وذرعوها على مدار القرون الخمسة الأخيرة.

وكان من شأن هذا التوجه الجارف، تكوين مساحة معرفية واسعة، لا تكاد تغادر صغيرة ولا كبيرة، حول معظم أوضاع مجتمعات الجنوب، التي ظل بعضها، بالنسبة للقوى الصاعدة اليوم، مجهولاً، وربما احتاج للتحري والمتابعة من نقطة الصفر.

وليس يخفى أن هذا السبق الغربي المعرفي، تعزز تالياً بالمعاينة والاحتكاك المباشر، عبر تقاسم السيطرة العسكرية وغير العسكرية المباشرة على هذه المجتمعات، وما تمخض عن ذلك من علاقات تفاعلية، سهرت عليها ورعتها، ولا تزال، أطر متعددة العناوين والوظائف.

رب قائل هنا: إن اصطكاك القوى الغربية بمجتمعات الجنوب، اتسم بالغزو العنيف وفرض الإرادة، وهذا صحيح إلى حد كبير. بيد أن هذه القوى، بالتوازي مع ذلك، لم تتخل عن وسائل التأثير الناعم المؤسس على قواعد علمية رصينة. يشي بذلك إنشاء كراسٍ وتخصصات للدراسات الشرقية والجنوبية منذ وقت مبكر، في معظم الجامعات الغربية.

وكم يستهجن المرء القول الشائع حول الجهل الأمريكي بأوضاع «الشرق الأوسط»، على الرغم من كثافة المراكز البحثية والكيانات الأكاديمية وصناديق الاستكشاف المعنية بمعالجة هذه الأوضاع داخل الولايات المتحدة وخارجها، التي يعود تأسيس بعضها إلى أكثر من مئة عام، كالجامعتين الأمريكيتين في بيروت والقاهرة.

ومن تجليات هذا الاهتمام ونتائجه، وربما من طرائفه أيضاً، أنه في بعض الأحايين التي يعز فيها العثور على بيانات وحقائق تفصيلية معمقة، بشأن قضايا تتصل بصميم دواخل مجتمعات العالم الثالث، قد لا يجد الباحثون والمعنيون، حتى من أبناء هذه المجتمعات، ضالتهم سوى في أضابير وأرشيفات هذه المراكز والكيانات.

عموماً، هناك قناعة عالم ثالثية، بأن تركة التفاعلات مع الأقطاب الغربية مفعمة بالذكريات المريرة. لكن المؤكد أنه لا يمكن الفكاك بسهولة من توابع هذه التركة وآثارها، بعُجرها وبُجرها. والأهم في مقامنا هذا، أن القوى الدولية الواعدة بمزاحمة هذه الأقطاب، راهناً وفي المستقبل المنظور، لا تتوفر على ميراث مماثل. ونحسب أن هذه النقيصة تحمل في طياتها شيئاً من الفرص، وشيئاً آخر من التحديات.

أما الفرص، فلأنها تخط على صفحات خالية من حمولة المرارات والشوائب التاريخية، وما قد تشكله من محاذير وهواجس ومخاوف، وهذا يهيء لها أرضية من القبول والأريحية. وأما التحديات، فلأنها ستحتاج وقتاً وجهداً في تفهم تعقيدات الأبنية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين يدي شعوب الجنوب، ثم في محاولة نسج علاقات ملائمة مع هذه الأبنية والأحوال.

قناعتنا أن التعامل مع هذه الفرص والتحديات، ليس بالأمر الهين اليسير، لكن المؤكد أنه ليس بالمستحيل. ندفع بذلك، وفي الخاطر أن المنتجات الصينية تمكنت مؤخراً من غشيان المتاجر والبيوت في عقر الديار الأمريكية، لدرجة أن بعض الدوائر راحت هناك تشكو من ميل الميزان التجاري لصالح بكين.

فكيف الحال مع دول الجنوب؟! ولنا أن نلاحظ بالخصوص، كيف تجتهد القوى الصاعدة في اختراق تضاعيف مجتمعات الجنوب عبر آليات مؤثرة، منها، بلا حصر، تأسيس منتديات ومؤتمرات للتعاون والشراكة، بعضها نخبوي متخصص، وبعضها شعبوي عام.. هذا دون الاستطراد إلى إنشاء مراكز البحث والتفكير، التي أصبحت تطارد بأنشطتها ومداخلاتها، نظيراتها الغربية الأقدم والأكثر رسوخاً.

 

Email