ماذا بشأن تمرد «فاغنر» وما بعده؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بديهيات سبر أغوار الحقيقة في محاولة فهم مجريات طارئة في أي صراع أو حدث سياسي، عدم البناء على مواقف وتحليلات أطراف الصراع، والمدافعين عنها من إعلاميين ومحللين وخبراء، لدوافع وأسباب مختلفة.

الحياد إزاء الصراعات السياسية والأيديولوجية في العالم من العملات النادرة، علماً بأن الانحياز كونه نقيضاً للحياد، ليس بحد ذاته مسألة معيبة.

لكن هذا الانحياز المبدئي المشروع ينبغي ألا يتدخل في صياغة الرؤية والفهم تجاه ما يجري في القضية المعنية أو حدث بعينه، ذلك أن تدخل الانحياز يعني تضليل الذات وإسقاط الرغبات والأمنيات على ما يجري موضوعياً، وما يعنيه ذلك من خيبات أمل يحصدها المنحاز في فترة الحصاد، طالت أو قصرت.

هذه المقدمة النظرية تنطبق على ما جرى في روسيا متمثل بتمرد اليوم الواحد والفاشل، الذي نفذه مؤسس وقائد مجموعة فاغنر الخاصة يفغيني بريغوجين. كان التمرد مفاجئاً، رغم أنه جاء تتويجاً لمواقف سابقة متكررة وجه فيها بريغوجين انتقادات لاذعة لوزارة الدفاع الروسية، بمن فيها وزيرها الأول ورئيس الأركان، لكن سرعة فشل التمرد، جاءت أيضاً مفاجئة لكثيرين، في الغرب وللقيادة الأوكرانية.

معظم قادة الغرب خرجوا بعد انتهاء التمرد بتصريحات متشابهة بدا وكأنهم اتفقوا على صياغتها وراء الكواليس، وجوهرها أن ما حصل يعكس ضعف القيادة الروسية وهشاشتها، وتصدع مؤسستها العسكرية، ثم بدأوا باستغلال الحدث للنيل من سلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

من حيث المبدأ ليس متوقعاً سماع كلام غير هذا من أطراف ضالعة في حرب طاحنة مع روسيا، فضلاً عن الصراع التاريخي معها، ومن دون أن ننسى أن الحرب النفسية جزء مهم في أي حرب.

ومن الطبيعي أن يجري توجيه مثل هذا الكلام لمن يتعمد هؤلاء السياسيون توجيهه إليهم، بهدف تبرير الدعم العسكري الغربي «السخي» لأوكرانيا، رغم ما تعانيه هذه الدول من تبعات اقتصادية ومعيشية، ورغم إعلانها عن نفاد مستودعاتها من الذخائر، وما ذهب إليه أمين عام حلف الناتو من حديث عن نفاد الذخائر في مستودعات الحلف.

يمكننا أن نتخيل سيناريو آخر لمواجهة التمرد في روسيا، غير الذي أنتجته وساطة الرئيس البيلاروسي، يعني أن تعطي القيادة الروسية أوامر لسلاح الجو بحسم الموقف والتعامل مع تشكيلات معروفة مقراتها، ويتحرك قادتها مكشوفين، ولا تملك وسائط دفاع جوي فعالة.

حينها يمكن لأسطوانات ترتفع أصواتها عن القمع والدموية وحقوق الإنسان والاستبداد والدكتاتورية، وكل ما يندرج تحت هذه الشعارات المعدة سلفاً في الأحداث المشابهة، حين يتعلق الأمر بدول لا تروق للغرب.

لو كان من نتائج التمرد الهشاشة والتصدع لرأينا أول تجليات هذا الاستنتاج على جبهة القتال في أوكرانيا، باعتبار أن مثل هذه الهشاشة فرصة للقوات الأوكرانية للاستثمار الميداني. هل حدث شيء من هذا القبيل أم أننا سمعنا أصواتاً في الغرب توجه الأسئلة نفسها، وبنكهة اللوم والعتاب لكييف عن الفشل في استغلال ما جرى.

ولو كان التمرد أخذ منحى أخطر لرأينا مثلاً إعلان حالة الطوارئ، هذا لم يحصل، ولم يفرض حتى حظر التجول.

على أية حال من العبث رؤية الأمور على أن شيئاً لك يحدث، ولا ينبغي التهوين من خطورة ما حدث أو تصفير مفاعيله. لقد حدث تمرد في فترة حرب، وقد سبقه توتر بين قائد المجموعة الخاصة المشاركة في الحرب وفي مهمات معينة في دول أخرى، ربما كان يجب معالجة ذلك التوتر في مهده، وبما يجري تحقيق ما فيما إذا كان أحد ما في الجيش تعاون مع «فاغنر» وصور له إمكانية تحقيق هدف ما، رغم أن بريغوجين نفسه قال إن هدفه لم يكن تغيير السلطة السياسية.

ومن نافل القول: إن القيادة الروسية ستستخلص الدروس والعبر، وقد نرى قريباً تغييرات جوهرية في الهيكل العسكري والأمني الروسي، وقد لا يحتاج الأمر إلى ذلك، وقادم الأيام سيوضح ما ليس واضحاً، بعد.

* كاتب فلسطيني

 

Email