مصر: جغرافيا «الموقع» وقوة «الموضع»

ت + ت - الحجم الطبيعي

سبق وأن نشرنا في هذه الصفحة المحترمة – تباعاً – مقالين حول الجغرافيا ومواقع الدول، وتأثيرها على أدوارها وعلاقاتها الخارجية. وكان المقال الأول حول «الجغرافيا والقوة العسكرية والاقتصاد وثورة الاتصالات»، بينما حمل الثاني عنوان: «بالرغم من التقدم لا يزال للجغرافيا تأثيرها».

وقد تعرض المقال الأول للدور الذي لعبته جغرافيا الدول على أدوارها وعلاقاتها الخارجية خلال قرون طويلة، بما حكم على معظمها بمساحات وأحجام محددة من هذه الأدوار والعلاقات، ارتبطت بموقعها الجغرافي، وتطرقنا إلى تطورات جذرية جرت خلال العقود الأخيرة في مجالات القوة العسكرية والاقتصاد وثورات المعلومات المتعاقبة، ما أتاح للعديد منها التغلب على مواقعها الجغرافية البعيدة، اعتماداً على تقدمها في هذه المجالات الثلاثة. وفي المقال الثاني استكملنا المناقشة، لنصل إلى سؤالها الرئيسي: هل انتفى دور الجغرافيا نهائياً في تحديد مصير الدول وأدوارها وعلاقاتها الخارجية، بالقياس لتقدمها في المجالات الثلاثة المشار إليها؟ وكانت الإجابة بشكل عام، هي أنه لا يزال للموقع الجغرافي دوره المهم والمؤثر بدرجات مختلفة في تحديد هذه الأدوار والعلاقات، مع الاعتراف بضعف دوره نسبياً في العقود الأخيرة.

واستناداً إلى المقالين المذكورين، نتطرق اليوم إلى حالة خاصة من الدول فيما يتعلق بالجغرافيا، وهي حالة مصر. فقد تمتع موقع مصر الجغرافي منذ قرون عديدة باهتمام كثير من المؤرخين والجغرافيين من مختلف دول العالم، ولعل أقدمهم وأشهرهم المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي شاعت عنه مقولة أن «مصر هبة النيل»، وهو الذي أفرد لدراسة جغرافيا مصر جزءاً من كتابه الأشهر ذي التسعة أجراء: «تاريخ هيرودوت»، والذي نشره في القرن الخامس قبل الميلاد، ووصف فيه موقعها الجغرافي وملامح تضاريسها الداخلية.

وقد جاء المفكر الجغرافي والمؤرخ المصري الرفيع الراحل جمال حمدان، لكي يفصل ويلخص ويضيف كل الأبعاد الرئيسية للواقع الجغرافي لمصر في كتابه العمدة: «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان». ويلخص حمدان هذا الواقع في كتابه بقوله: «الحقيقة العظمى في كيان مصر ونقطة البدء لأي فهم لشخصيتها الاستراتيجية، هي اجتماع موقع جغرافي أمثل مع موضع طبيعي مثالي، وذلك في تناسب أو توازن نادر المثال. فالموقع والموضع هنا متكاملان جداً في الدور، بل هي هما على السواء». فعلى صعيد الموقع تعد مصر المنطقة الوحيدة المعمورة بكثافة على طول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، وتعد بحجمها السكاني، الذي يزيد اليوم على المئة مليون، أكبر وأضخم رقعة معمورة في شمال أفريقيا وغرب آسيا ابتداءً من المحيط الأطلنطي وحتى حدود الهند. وإذا كان مركز العالم القديم هو منطقة الشرق العربي، فقد كانت مصر هي مركز ذلك الشرق، حيث تجتمع فيها القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأوروبا.

أما في العالم الحديث، فإن موقع مصر على قناة السويس وقربها الشديد من منطقة الخليج الاستراتيجية نفطياً وجغرافياً وعسكرياً، فضلاً عن وجود الدولة العبرية على حدودها الشرقية، قد جعل من موقعها الجغرافي أهمية إضافية.

وعلى الرغم من تأثر موقع وموضع مصر الجغرافيين بالمتغيرات الثلاثة المشار إليها في المقال الأول، إلا أن تلك العوامل الجديدة - على أهميتها وجدة بعضها - لا يرجح أن تؤثر في استمرار الدور المركزي لمصر بحكم الموقع والموضع. فقد ظلت مصر طوال القرون الستين من تاريخها سواء كانت دولة إمبراطورية أو دولة مستعَمَرة من قوى أجنبية، وبالرغم من ظهور عديد من التغيرات الكبرى شهدتها البشرية طوال ذلك التاريخ، كما يقول جمال حمدان «دائماً مركز دائرة قلت أو كبرت، ضاقت أو اتسعت، لكنها دائماً دائرة لها محيط وأبعاد، وهي مركز ثقله وجاذبيته ولها الدور القيادي فيه».

وحتى في مراحل الانحطاط وفي أسوأها، وكما يضيف المفكر الكبير الراحل «حتى وهي مستعَمَرة محتَلَة، ومهما كانت أوضاعها الداخلية، فلقد كانت مركز دائرة وليست على هامش دائرة أخرى. ونادرة جداً هي المراحل التي انزلقت فيها إلى قوة بينية بدلاً من مركز القوة الذي كانت غالباً».

وما كتبه جمال حمدان يعني بوضوح أن الدور المصري الإقليمي والدولي لن يتحقق تلقائياً لمجرد الموقع الجغرافي، فالرجل يرى أن هناك شروطاً ضرورية لكي تلعب مصر الدور الاستراتيجي الأمثل في الإقليم المحيط بها. فبصورة عامة يرى حمدان أن «كيان مصر ومصيرها حصيلة مباشرة للعلاقة المتغيرة بين قيمتها كموقع وقوتها كموضع: موقع خطير يتطلب لتحقيقه وضمانه موضعاً غنياً كفئاً، فإذا ما اجتمعا طفرت مصر كقوة إقليمية كبرى». من هنا، يبدو واضحاً أن ما يجري في مصر منذ ثورة شعبها العظيم في 30 يونيو 2013 هو سعي حثيث لتدعيم أهمية الموقع بقوة الموضع، عبر بناء الدولة الوطنية القوية القادرة، لأنه لو كان الموقع الجغرافي بمثابة قدر مكتوب على الدول والأمم لا مهرب لها منه، إلا أنها تملك أن تغير من موضعها أو عناصر ومكونات قوتها الذاتية التي تضيف إلى هذا الموقع، لتكتسب مكانتها التي تستحق، وهذا هو عين ما تفعله الدولة المصرية وتسعى إليه اليوم.

Email