الدول الغربية والمخاض الدراماتيكي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أن اتخذ رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي بيدرو سانشيز قراره أواخر مايو الماضي بحلّ البرلمان والتوجّه إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها يوم 23 يوليو 2023، والجدل يتصاعد في إسبانيا وفي عدد من الدول الأوروبية حول طبيعة المد السياسي اليميني الذي اكتسح جلّ البلدان الأوروبية التي عرفت انتخابات تشريعية وحتى رئاسية.

وقد اتخذ رئيس الوزراء الإسباني قراراً بحلّ البرلمان وتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة، غداة هزيمة مدويّة لحزبه، شملت 6 من قيادات الحزب الاشتراكي الحاكم، مُني بها تحالفه الانتخابي في استحقاق محلّي بكلّ البلديات والحكومات المحلية في 12 من أصل 17 دائرة انتخابية.

وفازت المعارضة اليمينية يوم الأحد 28 مايو 2023 بأكبر عدد من الأصوات في هذه الانتخابات التي يعتبرها الملاحظون اختباراً وطنياً لحكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز، ما دفع زعيم الحزب الشعبي اليميني ألبرتو نونيس فيخو إلى القول بأنّ «إسبانيا اتخذت من خلال تنظيم انتخابات مبكرة خطواتها الأولى باتجاه حقبة سياسية جديدة» تترجم بوضوح هيمنة اليمين السياسي في إسبانيا وفي عدد مهمّ من بقية الدول الأوروبية على المشهد السياسي الوطني.

وإسبانيا لم تكن حالة منفردة في «الانزلاق» نحو اليمين، إذ حُسِمَ مصير الانتخابات في نفس الاتجاه في فنلندا والسويد وإيطاليا وقبلها بولندا والنمسا، وحتى تلك الدول التي يحكمها اليسار أو ما شابهه كالبرتغال وألمانيا والدنمارك، فإنّ الحكومات فيها انتهجت سياسة يمينية بحتة أو هي بلا هوية يسارية واضحة المعالم أو هي في حالة تجريبية لا يُعرف لها مآلاً، ففي فرنسا صوّت 42 في المائة من الفرنسيين لفائدة اليمين المتطرّف وفي تركيا أكّدت نتائج الانتخابات الرئاسية فوز الرئيس رجب طيب أردوغان على كمال كليجدار أوغلو، المنافس الذي يفضله الغرب، وفي انتخابات البرلمان الأوروبي المقرّر اجراؤها سنة 2024، وهي العاشرة تاريخياً والأولى منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت)، ترجّح استطلاعات الرأي أنّها ستشهد اكتساحاً كبيراً لليمين الأوروبي.

ويتّجه الرأي إلى أنّ هذا النزوع في أوروبا إلى اليمين يجد تفسيره في ثلاثة عوامل أساسية على الأقلّ، أوّلها، تنامي الجريمة المنظمة واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والقيمية التي فشلت المنظومات وأحزاب الحُكْمِ التقليدية في إيجاد الحلول المناسبة لها، وثاني هذه العوامل هو التداعيات المباشرة وغير المباشرة للنزاعات والحروب الاقليمية والتي غدّت حركة هجرة لم تعد تقبل بها المجتمعات الغربية بما ساهم من جهة في تنمية الوعي القومي الوطني المعادي للآخر ومن جهة أخرى في انتعاشة أحزاب اليمين واليمين المتطرف، وثالث هذه العوامل المفسرة لصعود اليمن هو، تفكك أحزاب اليسار وانصرافها إلى مشاكل الأقليات ومسائل حقوق الإنسان مهما شدّت عن المشترك من القيم وانشغالها الكامل عن الهموم اليومية للمواطن الأوروبي عموما، ونعتقد أنّ أحزاب اليسار عموما أصبحت مجرّد أحزاب احتجاجية وكفّت أن تكون أحزاب حُكْمٍ منذ انقطاعها عن الواقع المعيشي للمواطن بشكل أدّى إلى فكّ ارتباطها مع قواعدها الانتخابية التقليدية المتكوّنة أساساً من الفئات الاجتماعية الضعيفة والتي استحوذت عليها، في خطوات ضدّ طبيعية الأشياء، أحزاب اليمين المحافظ واليمين المتطرف والأحزاب المستحدثة من خارج المنظومة التقليدية.

إنّ العالم الجديد الذي نعيش بدا أنّه على مشارف القطع شبه التامّ مع قيم الفردانية الليبرالية التي تمحورت تاريخياً حول قداسة حقوق الفرد وهو لذلك مقبل لا محالة على التقليص التدريجي لهوامش الحريات الفردية تحت مسمّيات عديدة منها حماية الأوطان ومجابهة الإرهاب والجريمة المنظمة، وإنّ هذه التطوّرات لن تجد بالطبع قبولاً حسناً لدى فئات من المثقفين احترفت النضال الحقوقي وبوّأته مكانة تسمو وتتعالى على القيم المشتركة والأوطان، وسواء تعلّق الأمر ببعض المثقفين عندنا أو بالمثقفين هناك عندهم فإنّ المشترك بينهم هو عدم الرضا عن التحولات الجديدة في المجتمعات والدول الغربية التي أصبحت قاعدة التعامل داخلها ومع الخارج هي المصالح ولا شيء غير المصالح، وهو تطوّر فرضته الأزمات المختلفة وقبلت به الشعوب فيما يبدو من خلال نتائج الانتخابات في هذه الدول والمجتمعات، وهذه الحقائق أصبحت جلية وواضحة.

إنّ الواقع السياسي في العالم عموماً وفي الدول الأوروبية تحديداً يشهد مخاضاً كبيراً قد يؤدّي إلى تغييرات دراماتيكية ولن تكون منطقتنا في مأمن من هذه التطوّرات ولكنّ الاعتقاد يطغى لدينا بأنّ القادم عندنا أفضل.

Email