بلغ رجل الدبلوماسية الشهير مئة عام هذه السنة. كيسنجر شخصية أثرت، بل وكتبت كثيراً من أحداث الشرق الأوسط، التي لا يزال أثرها معنا إلى اليوم. هنري كيسنجر، المهاجر اليهودي الذي فر من المحرقة النازية وتربع على رأس مؤسسة الأمن القومي والدبلوماسية الأمريكية، سطر كثيراً من تاريخ الشرق الأوسط في السبعينيات من القرن المنصرم. وقد كان رجل الدولة، الذي يراه الكثيرون أسطورة الدبلوماسية الأمريكية، شاهداً ومشاركاً في أحداث جسام، مثل التطبيع مع الصين، ونهاية حرب فيتنام، وانقلاب تشيلي، والحرب العربية- الإسرائيلية في أكتوبر 1973.
وفي كتاب صدر حديثاً ألفه مارتن أنديك، بعنوان «سيد اللعبة.. هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»، وقمت بمراجعته، يروي الكاتب دور كيسنجر في سياسة الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي.
وكانت حرب أكتوبر 1973 وما تلاها قد سيطرت على معظم دبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط، وهي باكورة نشاطه الدبلوماسي بعد أن تسلم المنصب من عدوه اللدود وليام روجرز، الذي استقال من هذا المنصب بسبب المعوقات والعصي التي يضعها له كيسنجر في دواليب الخارجية الأمريكية كمستشار للرئيس ريتشارد نيكسون.
ففي صبيحة 6 أكتوبر حين اندلعت شرارة الحرب بين إسرائيل ومصر وسوريا، أيقظه أحد مساعديه ليبلغه عن أنباء ما يدور في المنطقة. وفي لحظتها، والتي كانت الأزمة الأولى في الشرق الأوسط التي يواجهها كيسنجر بصفته وزير خارجية. وبالنسبة لكيسنجر فالصراع العربي- الإسرائيلي ليس مسألة استراتيجية فحسب، بل شخصية أيضاً، فقد أسر كيسنجر لكاتب سيرته، كما جاء في الكتاب، «أنك لا يمكن أن تكون جزءاً من مجتمع عانى مثل الشعب اليهودي لآلاف السنين من دون أن يكون لديك شعور قوي بالانتماء [للعقيدة اليهودية]».
وعلى ضوء الحسابات الاستراتيجية والرغائبية لكيسنجر، وضع الأخير أربعة أهداف، يصفها الكاتب بأنها متناقضة نوعاً ما، لمواجهة الحرب المشتعلة في الشرق الأوسط؛ أول الأهداف ضمان فوز إسرائيل على مصر وسوريا المدعومتين من الاتحاد السوفييتي. ثانياً: منع وقوع هزيمة مذلة لمصر لإقناع رئيسها بالتوجه للسلام مع إسرائيل من دون إراقة ماء وجهه. ثالثاً: إقناع الدول العربية بأن واشنطن هي الوحيدة القادرة على تحقيق أهدافهم على طاولة المفاوضات. وأخيراً: الحفاظ على الوفاق مع السوفييت، رغم سعي كيسنجر لتقليص نفوذهم في الشرق الأوسط.
ولمدة أربع سنوات بعد الحرب، سعى كيسنجر فيما عُرف بالدبلوماسية المكوكية، التي نتج عنها اتفاقات فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل ومصر وإسرائيل. يصف الكاتب هذه الاتفاقيات بأنها تعكس براعة كيسنجر كلاعب على ميدان الشرق الأوسط، وأن هذه الجهود الدبلوماسية مهدت لاتفاقات السلام اللاحقة بين مصر وإسرائيل والأردن وإسرائيل، كما أنها أرست قواعد الاتفاق الفلسطيني- الإسرائيلي المعروف بـ«أوسلو».
ويعلق الكاتب بأن كيسنجر استطاع بحنكته وقدراته المتميزة أن ينجز الكثير وهو على رأس الدبلوماسية الأمريكية. وقد أثبت ذات مرة فهمه العميق لتركيبة ميزان القوى في الشرق الأوسط وتوظيف الفهم لصالح الأهداف الدبلوماسية. لقد استطاع كيسنجر استخدام المكيافيلية السياسية والقدرات الأمريكية الفائقة لتحريك اللاعبين الرئيسيين لغايات السلام المنشود، «ولكن في بعض الأحيان في أثناء سعيه للنظام والاستقرار، حُجبت عنه المؤشرات المنذرة للحرب وفرص السلام».
ويضيف الكاتب: «إذا كانت الدبلوماسية هي فن تحريك القادة السياسيين إلى مواقع كانوا مترددين أن يذهبوا إليها، فإن كيسنجر كان سيد اللعبة»، ولكن البعض قد يرى أن كيسنجر كان قصير النظر، ففي سبيل تسجيل نقاط لصالح واشنطن وإسرائيل على المدى القصير، أضاع رجل الدبلوماسية الفرصة لإيجاد حل دائم للقضية الفلسطينية، لُب الصراع العربي الإسرائيلي. واليوم تنعدم آفاق الحل بسبب هذه السياسات التي وضع أسسها الوزير المبجّل.
وفي سياق فشل محاولات واشنطن في الوصول إلى حل سلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يسترجع الكاتب الأسباب وكيف أن «سيد اللعبة» كيسنجر نجح في خلق الظروف لإحلال السلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل. حقق كيسنجر نجاحات قصيرة المدى وأخفق على المدى البعيد.