حرب على حافة العالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بالتوازي والتزامن مع العمليات العسكرية الجارية في ميدان الحرب الأوكرانية، يدور بضجيج أقل اشتباك آخر في الأروقة الفقهية والسياسية ذات الصلة، يتعلق بالخلاف حول التوصيف المناسب لطبيعة هذه الحرب، والمآلات والمصائر التي يمكن أن تفضي إليها أو تتمخض عنها في الحال والاستقبال.

استمرارية القتال واشتداده في الرحاب الأوكرانية، وازدياد شواهد احتمال امتداده إلى عمق الأراضي الروسية، وربما انجرار أطراف إقليمية أوروبية بشكل مباشر إليه، فضلاً عن الانغماس غير المباشر القائم بالفعل من لدن بعض هذه الأطراف وكذا من قوى عالمية معتبرة كحلف الناتو، وتعاظم لجوء المتقاتلين لأدوات ضغط وإسناد رديفة تقوي مراكزهم ضد الخصوم، كالعقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية.. هذه الخصائص ونحوها تتعارض مع مفهوم «العملية الخاصة»، الذي أطلقته موسكو عنواناً لحربها قبل ستة عشر شهراً.

العمليات الخاصة عادة ما تكون أقرب إلى الجراحات المحدودة من حيث الزمان والمكان والأطراف والأهداف ووسائل الحركة والتنفيذ، وليس من شأنها استدعاء ما ارتبط بالنموذج الأوكراني من أبعاد وتداعيات وأصداء بالغة التعقيد. ويبدو أن موسكو أضحت تتنبه إلى هذه القناعة، حتى أن خطابها بشأن الحرب راح مؤخراً يخلو إلى حد كبير من العنوان الذي استخدمته عند البدايات.

هذا أمر لا يبشر بخير، لأنه يعزز إمكانية انفلات سياق هذه الحرب عن القياسات وحدود وقواعد الاشتباك والخطط والتصورات، التي افترضها صناع القرار في موسكو. وتأسيساً على هذا المتغير، تصح المجادلة بين يدي هذا المثل بالمقولة الشهيرة بأن المعنيين بالحرب، أي حرب، يمكنهم معرفة بداياتها، لكنهم في الغالب الأعم لا يستطيعون التكهن القطعي بشأن متى تضع أوزارها؟ وكيف؟، ولا يسعهم التيقن من سيرورتها وصيرورتها وما قد تنتهي إليه من مآلات!. ولنا في سيرتي الحربين العالميتين عبرة وعظة.. فحين قام أعضاء من تنظيم اليد السوداء، القومي الصربي المتعصب، باغتيال ولي عهد النمسا في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك يوم 28 يونيو 1914، لم يجل بخاطرهم أنهم بفعلتهم تلك إنما أطلقوا شرارة حرب ضروس، استمرت أربع سنوات وأخذت طابعها العالمي من مشاركة زهاء 70 دولة، وانتهت بمصرع وإصابة أكثر من 37 مليون إنسان، ومحو خرائط جيوسياسية دولية ونشوء أخرى نعاين بعض ملامحها حتى لحظتنا الراهنة.

إذا نحينا جانباً بعض الحيثيات، التي يوجبها الفارق الزمني وما ينطوي عليه من متغيرات وتباينات نسبية، يصح لنا مقاربة انبعاث الحرب العالمية الثانية ونموها وتطورها وفق المنطق ذاته.. فقد بدأت فعلياً في قلب أوروبا باجتياح ألمانيا لبولندا في 1 سبتمبر 1939، لتنتهي بعد ستة أعوام، بأول استخدام في التاريخ للسلاح النووي، وذلك من جانب الولايات المتحدة في أقصى غرب الكوكب ضد اليابان في أقصى الشرق. وبين تلك البداية المشؤومة والنهاية الأكثر شؤماً، وقع أكثر من 73 مليون إنسان بين قتيل ومصاب، ونال العلاقات الدولية بكل خرائطها ما نالها من تحولات على نحو جزئي أو جذري.

المؤكد اليوم أن ما أضمرته موسكو لعمليتها الأوكرانية، كأن تكون موضعية وخاطفة عاجلة، بات بعيداً عن الواقع المنظور.. ولنا أن نلحظ، كيف أن مؤشرات خروج هذه «العملية» عن سيطرة ضابط الإيقاع الروسي، تتواكب مع رغبة الطرف الأوكراني الجامحة في استنفار واستصراخ حلفائه وأنصاره ومحازبيه الإقليميين القاريين والدوليين، ودفعهم إلى الاصطفاف الصريح خلفه.. ومن ذلك إلحاحه في طلبات الالتحاق بكل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وإمداده بأنظمة قتال فارقة دفاعياً وهجومياً.

ترى هل يعني ذلك أننا إزاء حرب تميل إلى فقدان الكوابح، وأنها أصبحت في التحليل الأخير قابلة للانحدار، أو التدحرج أكثر فأكثر نحو هاوية «العالمية»، على غرار النموذجين الشهيرين من قبل؟ هناك الكثير من التفصيلات والتحركات، أوكرانياً وأوروبياً ودولياً، التي توحي بقابلية مثل هذا السيناريو اللعين للنضوج. والحال كذلك، فإن عالمنا بحاجة ماسة إلى وسطاء بعيدي النظر لا يملون؛ يسعون آناء الليل وأطراف النهار لبيان المعاني الكارثية لهذا التصور.

Email