عالم ثلاثي القطبية.. باعتراف أمريكا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمّة تساؤل يقفز إلى ذهن أي متابع للشؤون العالمية حول تصريح رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية مارك ميلي، أمس السبت عن عالم ثلاثي الأقطاب، بوجود ثلاث دول عظمى في الوقت الحالي هي «الولايات المتحدة وروسيا والصين»، ودول أخرى تنهض. هل هو تصريح مفاجئ؟

وهل هو منقطع الصلة عن تطورات مرتبطة بالصراع الروسي الغربي في أوكرانيا؟ وهل لهذا التصريح تداعيات على العلاقات بين هذه القوى الثلاث، وفي أي اتجاه؟ في واقع الحال، تصريح ميلي يميل إلى المفاجأة، بل يمثّل اعترافاً كان كثير من المسؤولين الأمريكيين والغربيين يتجنّبه، وإن كان الغرب الجماعي يتعامل مع روسيا على أرض الواقع، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، على أساسه.

في هذا السياق، تجدر العودة بضع سنوات إلى الوراء، ففي مارس عام 2014، بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم، تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن روسيا بلغة تنم عن تصغير ودونية، حين وصفها بأنها «قوة إقليمية»، وبعد ذلك التصريح بشهر، أطلق السيناتور جون ماكين في أبريل من العام نفسه تصريحاً وصف فيه روسيا بأنها «محطة وقود تتنكر في شكل دولة».

وفي سبتمبر العام الماضي، أعاد تقرير في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية تصريحات أوباما من باب الموافقة عليها، وتلقفت قناة الحرة تقرير «هآرتس» وبنت عليه استنتاجات تدعم توصيف روسيا بما ذهب إليه أوباما وماكين، ولم يكن ناقصاً سوى القول إن روسيا ليست أصلاً دولة، بل «مزرعة يسكنها أشخاص».

الآن لا تفصل تصريحات ميلي عن توصيفات «هآرتس» و«الحرة» سوى تسعة أشهر. لكن ما بين التوصيف هناك والاعتراف هنا استدارة قدرها مئة وثمانون درجة.

منذ سنوات، هناك من السياسيين والمحللين في الولايات المتحدة والغرب من يتبنى مواقف أكثر واقعية تجاه روسيا، ويراها في سياق حركي نشط وناهض منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات.

بل إن بعضهم ذهب إلى حد التحذير من مخاطر إطلاق توصيفات وتصريحات مستفزة لروسيا، تحت قيادة شخص مثل فلاديمير بوتين، بما يمثّله من طموحات ورؤى عن مستقبل روسيا وعلاقتها بالغرب وعلاقة الغرب بها، وهو ما عبر عنه بوتين في مؤتمر ميونخ الدولي الأمني سنة 2007، حيث حذر من سياسة توسع حلف الناتو شرقاً واقترابه من حدود روسيا.

لو كان تصريح أوباما صدر في السنوات العشر الأخيرة من عمر روسيا المنبثقة عن ذلك الاتحاد، لكان في توصيفه بعض الوجاهة أو كلّها، رغم أن التوصيف يجب ان يرفق بشرطية «الوضع المؤقت»، لأن روسيا تمتلك مقومات الدولة العظمى بكل أبعادها، وهذه مسألة تاريخية وموضوعية، ولا علاقة لها بما يحب هذا أو يكره ذاك.

يقال إن «لكل دولة زمان ورجال»، وهذا صحيح تماماً، لذلك أفرزت مرحلة الولادة الدرامية لروسيا ما بعد «السوفييت» قيادة كانت ضمن منظومة الانهيار السوفييتي أصلاً، ممثلة ببوريس يلتسين الذي سلم مفاتيح القرار الروسي للغرب، ولم يعترض على أي شيء تقريباً.

وحين دخل فلاديمير بوتين البيت الأحمر في موسكو قادماً من عالم المخابرات السوفييتي، تأكدت للمتابعين الموضوعيين مقولة أن «لكل دولة زمان ورجال»، إذ لم يكن التغير القيادي تغير وجوه أو أشخاص، بل كان تغيراً جذرياً وبأدوات مختلفة تماماً، وكان بداية الطريق - المعركة لإعادة هيبة روسيا التي كانت العمود الفقري للاتحاد السوفييتي، ولم تكن مجرد واحدة من خمس عشرة جمهورية.

وهنا يجب أن نتأكد ونتذكر بأن الدولة العظمى لا تحمل هذه الصفة ارتباطاً بامتلاك الأسلحة التقليدية والنووية، بل لها مقومات تاريخية واقتصادية وسياسية وثقافية، وغيرها، وكل ذلك مجتمعاً.

وما من شك بأن توصيف دولة ما بأنها قوة عالمية أو قوة إقليمية، ينبغي أن يعتمد على معطيات موضوعية وليست رغبوية أو تعبيراً عن أمنيات.

ولا يجوز لدولة أن تنظر لنفسها في مرآة العظمة بعيون رومانسية، فضلاً عن أن الدولة العظمى ينبغي أن تكون قوة مساندة للعدل والتكافل الإنساني، كي تكون هذه القوة ذات مساهمة فاعلة ومؤثرة في جعل الحياة أفضل على هذا الكوكب الوحيد القابل للعيش، حتى الآن.

* كاتب فلسطيني

Email