ماسك والعصر الجديد وهوية الذكاء الاصطناعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

على المتشككين في إننا مقبلون - أو بالأحرى أقبلنا - على عصر جديد بمقاييس ومعايير ومواصفات حديثة أكثر عملية وعقلانية وأقل تحليقاً في خيال ثبتت استحالة ترجمته على أرض الواقع، أن ينظر إلى زيارة رجل الأعمال الأمريكي متعدد المواهب والأعمال والرؤى المستقبلية إيلون ماسك إلى الصين.

فبينما العالم يضع يده على قلبه في كل مرة تتراشق فيها القوتان الدوليتان أمريكا والصين بالاتهامات الدبلوماسية أو التنابذات الاقتصادية أو التهديدات المبطنة المازجة استعراض القوة بمكايدة الآخر بالتكتيك للمستقبل، إذ بماسك في الصين، وإذ بصور ماسك مع وزراء الخارجية تشين غانغ، والصناعة جين تشوانغ لونغ، والتجارة وانغ وينتاو وغيرهم من المسؤولين وأصحاب الشركات ورجال الأعمال الصينيين رفيعي المستوى ملء السمع والبصر على الأثير، وإذ بأخبار الصفقات والتعاقدات والتوسعات تحتل صدارة أقسام المال والأعمال والاقتصاد، ومنها ما تسلل إلى صفحات السياسة متفوقاً على تكهنات المحللين وتحذيرات الخبراء من هذا التقارب «الأمريكي» غير الرسمي مع الصين رسمياً.

البعض تساءل إن كان ماسك بهذه الزيارة بالغة الإثارة والأهمية يتحدى قيادة بلاده أو نهجها. وآخرون تكهنوا بأنه ربما بزيارته تلك يعلن عداءه أو معارضته أو حتى يوجه تهديداً أو تحذيراً مبطناً للإدارة الأمريكية. لكن الحقيقة أن زيارة ماسك، وهي ليست الوحيدة التي تقوم بها شخصية مال وأعمال أمريكية كبرى للصين أخيراً، هي مكملة وجزء لا يتجزأ من العصر الجديد.

العصر الجديد - سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومناخياً وعسكرياً وأمنياً - ليس بالضرورة عصر مواجهات زاعقة على أرض المعركة. وهو أيضاً ليس بالضرورة عصر قياس قوى الأمم بناء على تعداد السكان أو عدد الدبابات أو الناتج المحلي الإجمالي فقط، وجميعها قياسات مهمة، ولكنها وحدها في العصر الجديد لا تكفي.

تشير ورقة عنوانها «قوة الأمم: قياس ما يهم» والصادرة عن دورية «الأمن الدولي» (2018) إلى أن العوامل المتعارف عليها في قياس قوة الأمم تعتمد بشكل رئيسي على الموارد الاقتصادية والعسكرية، مثل الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق العسكري. بمعنى آخر، جرى العرف أن تعتمد القياس على الثروات المادية والأصول العسكرية.

لكن العصر الجديد يأتي حاملاً عناصر جديدة أو إضافية، فبينما تبقى القوة الاقتصادية والعسكرية معياراً أساسياً، فإن عوامل أخرى مثل درجة الاستقرار السياسي والتأثير الاقتصادي والتحالفات العالمية والقوة الناعمة.

رحلة ماسك وغيره من رجال أعمال ومسؤولي شركات أمريكية ومتعددة الجنسيات كبرى إلى الصين هي تحالفات عالمية وقوة ناعمة، بالإضافة لكونها تأثيراً اقتصادياً ومن ثم سياسياً كبيراً.

ومهما علت أصوات أمريكية منددة بالصين، أو محذرة من التقارب معها ولو من باب السيارات الكهربائية والملابس والإلكترونيات، فستبقى رحلة ماسك دليلاً ونموذجاً على معايير العصر الجديد، وعلى مقاييس قوة الأمم التي باتت تتسع فعلاً لا قولاً لتحالفات عالمية لا تتطابق بالضرورة والسياسات المعلنة للدول، ومعها القوة الناعمة الضاربة من فن وإعلام وسياحة ومشروعات ومبادرات وأعمال خيرية ولقاءات فكرية وبحوث علمية وحتى الطبخ والترفيه وكرة القدم، والقائمة تطول.

طول رحلة ماسك للصين لم تزد على 44 ساعة، لكن أثر هذه السويعات لن يقتصر على ماله وأعماله ومكانته فقط، بل سيمتد إلى توازنات القوة في العالم، وإلى العلاقات بين قوى العالم العظمى وكذلك الصغرى، المعلن منها وغير المعلن. هي درس ودلالة وحجة على معايير العصر الجديد، والتي هي بالمناسبة كانت المعايير الحقيقية والفعلية - وإن كانت غير معلنة - لكل عصر.

وفي كل عصر، تهمين نظريات مؤامرة ويبزغ نجم إحداها. وفي العصر الحالي، فإن الهيمنة الأكبر ما زالت من نصيب نظرية أن قوة غامضة عظمى تحاول أن تفرض نظام حكم شمولياً على العالم كله، وذلك من قبل شخصيات نخبوية قوية تتمتع بقوة السياسة والاقتصاد معاً، وتتآمر على مدار الساعة من أجل الهيمنة على العالم.

وأرى أن ما يهيمن على العالم هذه الآونة قوتان: الأولى قدرة الدول على الالتفات لمصالحها ونبذ خيالات الماضي غير الواقعية، واعتناق نهج أكثر واقعية وفعالية وعقد التحالفات بناء على ذلك، والثانية هي الذكاء الاصطناعي الذي لا يكف عن مباغتتنا مهما تحضرنا له، وهيئ لنا أننا جاهزون لاستقباله والتعامل والتعايش معه.

ويمكن القول إن الذكاء الاصطناعي بات قوة عظمى، وربما القوة العظمى. نقرأ كثيراً عن دولة كذا التي تبذل الجهود وتنفق الأموال وتستثمر الموارد البشرية من أجل أن تصبح قوة عظمى في مجال الذكاء الاصطناعي. وبالفعل تحقق الدول الصناعية الكبرى طفرات وقفزات، ولكن يبقى الذكاء الاصطناعي - على الأقل حسب ما يتوافر لنا من معلومات حتى الآن - قوة قائمة بذاتها، لا يحمل بطاقة هوية أو جنسية تابعة لدولة دون أخرى. وربما لا يدين بالولاء لأمة بعينها. وهذا يستحق البحث والاستعداد.

Email