«دبلوماسية الباندا» وحسابات المصالح

ت + ت - الحجم الطبيعي

الباندا الصينية «يا يا»، التي أعيدت الشهر الماضي من الولايات المتحدة إلى الصين، بعد انتهاء إعارتها التي استمرت عشرين عاماً، فتحت شهية المحللين للربط بين الحدث برمته، والعلاقات الصينية الأمريكية.

عودة الباندا إلى الصين لم تكن حدثاً طارئاً أو من قبيل المصادفة، إذ إن ثمة اتفاقاً على مدة إعارة انتهت، لكن المفارقة تكمن في توقيت ذهاب وإياب الباندا، التي يعتبرها الصينيون «رسول سلام» ورمزاً للصداقة، إذ إن الجزء الأعظم من السنوات العشرين من عمر الإعارة شهدت دفئاً في العلاقات الصينية الأمريكية، في حين تزامنت عودة الباندا مع ذروة التوتر في هذه العلاقات.

معروف أن الصين تستخدم «دبلوماسية الباندا» منذ الخمسينيات، إذ إنها بين عامي 1957 و1983 منحت 24 باندا لتسع دول في سياق سياسة تكوين الصداقات.

وقبل الباندا التي عادت كان هناك دور لهذا الكائن في العلاقة الأمريكية- الصينية حين زار الرئيس ريشارد نيكسون بكين سنة 1972 في عهد الرئيس ماو تسي تونغ، الذي أهدى نظيره الأمريكي اثنتين من الباندا، ليرد الأخير بإهداء بكين اثنين من ثيران المسك، كان ذلك مؤشراً من بين مؤشرات أخرى على أن بين البلدين علاقة دبلوماسية قوية.

في الآونة الأخيرة تغلبت اعتبارات التنافس الاقتصادي والنفوذ المناطقي والأمن القومي على «دبلوماسية الباندا».

في السنوات القليلة الأخيرة بدأ التوتر في العلاقات بين واشنطن وبكين يتصاعد، وقد شهدنا بداية ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن توتراً، بدد آمال كثيرين ممن ظنوا أن عودة الديمقراطيين للسلطة قد ترطب الأجواء مع بكين، بعد سنوات من التوتر والمعارك التجارية، التي طبعت علاقاتهما خلال فترة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ونتذكر حينها كيف أن اجتماعات عقدت بينهما في مدينة آنكريج بولاية ألاسكا، كشفت حجم التوتر في العلاقات، إذ طفا على سطح المباحثات بين الطرفين تبادل حاد وعلني للاتهامات بل والتحذيرات، أمام كاميرات التلفزة وعدسات المصورين، وهذا مشهد تكرر كثيراً في مناسبات عديدة، ظهر فيها مسؤولون صينيون يفتحون «دفاتر الحساب» القديمة والحديثة أمام محاوريهم الأمريكيين.

وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن تحدث، أمس السبت عن أهمية الحوار وبقاء خطوط الاتصال مفتوحة مع بين الولايات المتحدة والصين، من أجل تجنب «الحسابات الخاطئة»، التي قد تؤدي إلى نزاع.

أوستن قال ذلك بعد رفض بكين دعوة إلى عقد اجتماع رسمي بينه، وبين نظيره الصيني لي شانغ فو، الذي تفرض عليه- كما آخرين- واشنطن عقوبات منذ سنة 2018.

هذا الرفض يحمل الرقم 12 لطلبات وزارة الدفاع الأمريكية، من أجل التواصل بين القيادتين، وعلى عشرة طلبات تواصل على مستوى فرق العمل. ورغم أن لقاءات عدة عقدت العام الماضي، إلا أن التوترات بين واشنطن وبكين تصاعدت هذا العام على خلفية ملفات، تبدأ بالتكنولوجيا والتجارة، ولا تنتهي باتهامات التجسس والاحتكاكات في بحر الصين الجنوبي.

العديد من الخبراء يرون- ولديهم من الشواهد ما يكفي- أن الولايات المتحدة والصين منخرطتان عملياً في «حرب باردة» على جبهة ثانية، فإذا كان أساس الحرب الباردة في الحقبة السوفييتية أيديولوجياً فإن هذه الحرب على الجبهة الصينية يأخذ طابع التنافس التجاري والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري، في ظل واقع تراه أمريكا يتشكل وقوامه تغييرات واضحة، يشهدها ميزان القوى الدولي، وإذا توسع «زووم» المشاهدة ورأينا روسيا على الشاشة فإن الولايات المتحدة تجد نفسها تتعامل مع نظام عالمي جديد يتشكل، ولن تبقى فيه يد الولايات المتحدة عليا.

الفجوة آخذة في الاتساع بين الجانبين وبين الغرب وروسيا على الخط الموازي، مع علاقات قوية بين بكين وموسكو، في خريطة جوهرها صراع على صياغة النظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب، في ظل محاولة الولايات المتحدة الحفاظ على الصيغة الحالية، التي تمنحها الأفضلية، في حين تريد الصين وروسيا ومعهما دول عديدة ترى أن موازين القوى تغيرت والقواعد الدولية يجب أن تتغير كذلك.

ورغم ذلك من المرجح أن تحافظ بكين على «دبلوماسية الباندا»، لا سيما أن موطن «رسول السلام» هذا في الصين يحتل مساحة من الأرض تبلغ 34 ألف كيلو متر مربع، وهي تفوق بسبعة آلاف كيلو متر مساحة فلسطين التاريخية، وهي بؤرة صراع آخر ما زال على صفيح ساخن.

 

*كاتب فلسطيني

Email