مهرجان في حائل وتمثال في وهران

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتكلم عن واقعتين إحداهما جرت شرقي المنطقة العربية، والثانية غربي المنطقة هناك على البحر المتوسط، ومع ذلك يربطهما خيط واحد هو خيط بناء الوعي لدى الإنسان في مكانه.

الأولى كانت في الخامس من الشهر الماضي، في مدينة حائل شمالي نجد، في المملكة العربية السعودية، وكانت بدايتها عندما قررت وزارة الثقافة في المملكة إقامة مهرجان باسم حاتم الطائي، الذي عاش ومات في المكان الذي تشغله المدينة في الوقت الحالي.

لقد عاش الطائي في القرن السادس من ميلاد المسيح عليه السلام، وكان يشتهر، ولا يزال، بالكرم الذي كان يمارسه مع الناس كما لم يمارسه أحد، ولذلك ذهب هو بالمجد كله في الموضوع، ولم نعد نذكر أحداً بالكرم إلا هو، ولم نعد ندلل على كرم أحد بيننا إلا إذا نسبناه إلى كرم ذلك الرجل العربي القديم.

ورغم أنه كان شاعراً، وكان بالدرجة نفسها فارساً، إلا أن الكرم عنده يتفوق على الشعر والفروسية، ولا يستطيع كريم من كرماء الناس أن ينافسه فيما استقر له من صيت بيننا، وبين الذين كانوا من قبلنا، وصولاً إلى هذه اللحظة الحاضرة.

ولذلك، يظلّ إحياء ذكراه من خلال مهرجان يحمل اسمه، ما يجدد الحديث عما اشتهر به وبرع فيه، وما يجعل الأجيال العربية الجديدة تلتفت إلى أن في تاريخها ما يستحق أن تتوقف عنده، وأن تأخذ منه من القيم ما لا بد من أن نحافظ عليها.

وليس أهم من الكرم قيمة نتمسك بها، ونجدد لها مكاناً بيننا، ونعود إلى الرجل الذي حملها باستمرار، لنعرف ماذا كان يفعل، وكيف كان يعيش، وماذا قدم في الكرم باعتباره قيمة عربية أصيلة، حتى اقترن الاثنان معاً، فلا نذكر الشاعر إلا ونذكر الكرم معه، ولا يمر الكرم على خاطرنا أو يأتي في بالنا، إلا ويكون حاتم الطائي هو النصف المكمل للجملة.

هذا في حد ذاته وعي بالتاريخ، وبمحطات أساسية فيه، وليس من الممكن أن نجعل حاضرنا امتداداً للماضي، إلا إذا أدركنا أن في تاريخنا من القيم الكبيرة ما يستحق أن نظل نبعثه في حياتنا المعاصرة، لعلنا نذهب إلى مستقبل يليق بنا وبتاريخنا في مجمله.

والواقعة الثانية كانت في الجزائر، وكانت عندما قررت الحكومة إقامة تمثال للأمير عبدالقادر الجزائري يصل في ارتفاعه إلى ما لم يبلغه تمثال آخر تقريباً.. فالارتفاع سيكون 42 متراً، والمناسبة هي مرور 140 سنة على رحيل الرجل الذي لم يمهله القدر ليرى حصيلة جهاده في سبيل استقلال بلاده. وسيكون التمثال في مدينة وهران غربي البلاد.

سيرة الأمير عبدالقادر تقول إنه جاء إلى الدنيا عام 1808، وغادرها في 1883، وأنه عاش بين التاريخين يعمل من أجل هدف واحد وهو أن يرى بلده مستقلاً ذا سيادة على أرضه، وأن يخرج منه المحتل الفرنسي فلا يعود إليه مرةً ثانية.

وما قلته في السطرين السابقين إيجاز شديد لسيرة الرجل طبعاً، لأن سيرة رجل في مثل تاريخه ونضاله تملأ الكتب وتفيض. وليس سراً أنه كان قد ذهب إلى المنفى في دمشق، وأنه مات ودُفن هناك، وأن بلاده استعادت رفاته بعد الاستقلال، وأن في عودة رفاته إلى الجزائر ما أسعده في قبره بالضرورة، لأنه من المؤكد أنه قد استراح في مثواه الأخير حين أحس بأن ما عاش في سبيله قد تحقق، وأن جهاده لم يذهب سُدى، وأن الوقت الذي أنفقه في الجهاد كان في مكانه.

بمثل تمثال الأمير عبدالقادر، ومهرجان حاتم الطائي، يتعرف الشباب بالذات إلى ما مرّ في منطقتهم العربية ذات يوم من أشياء وأحداث، ثم على ما في المهرجان والتمثال من المعاني التي لا يجوز أن تغيب عنا، وإذا غابت في زحمة الحياة فلا بد من استدعائها من دون إبطاء، لأن في الأول تتمثل قيمة عسكرية وسياسية على اتساع ميدان المقاومة، وفي الثاني تتجسد قيمة عربية عظيمة بين القيم الباقية.

 

* كاتب وصحافي مصري

Email