كيسنجر وأوكرانيا وخبرة 100 سنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كل مجالات الحياة، تكتسب الخبرة التي تختمر وتولد من رحم السنين، أهمية بالغة، وإذا غاب مفعولها، فإنها تترك مكانها للطيش والارتجالية والانفعال.

يوم أمس السبت، أكمل هنري كيسنجر، الملقب بثعلب الدبلوماسية الأمريكية، مئة عام من عمره، ورغم أنه مقلّ في إطلالاته، إلا أنه حضر حفلاً بالمناسبة في نادي نيويورك الاقتصادي، وسبق ذلك بحديث أدلى به لصحيفة «ديلي ميل» البريطانية.

كثيرون يعتبرون أو يعتقدون أن هذا الرجل المخضرم وصاحب الرؤية الثاقبة في فضاء السياسة، لا يزال يلقى آذاناً صاغية من قادة كثيرين في العالم، إذ يحاول بين الحين والآخر تقديم نصائحه في القضايا الجيوسياسية، وبقدر ما يثير الإعجاب بقدر ما يثير الانقسام كذلك. لكن من دون شك، ترك كيسنجر بصمته الخاصة والفريدة على السياسة الخارجية الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذه بحق استمرارية استثنائية، وربما غير مسبوقة.

وفي الحقيقة، ليس هناك ما يشير إلى أن قادة البيت الأبيض ووزارة الخارجية، يأخذون بالاعتبار نصائح أو آراء أهم صانع للدبلوماسية الأمريكية في تاريخها، وذلك يتضح من خطوات وقرارات سياسية تتخذ على الضد تماماً من نصائحه، وبخاصة فيما يتعلق بالموقف إزاء روسيا والصين، وهو لا يرى - بالنسبة للأخيرة - فرقاً بين سياسة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن وسياسة سلفه دونالد ترامب، لذلك فإنه يقرع جرس التحذير من إعلان الصين خصماً ومحاولة انتزاع «التنازلات» منها، إذ إن الصين بالقوة التي تمثلها وتملكها، تعتبر خصماً خطيراً للولايات المتحدة، ولا مفر من الحوار لمواجهة خطر الانزلاق في أتون مواجهة أخرى لا يحتملها العالم، ذلك أن الصراع المحتمل بين واشنطن وبكين بالنظر إلى الأسلحة الحالية لديهما، يمكن أن يهدد بـ«تدمير الحضارة»، بكلام كيسنجر.

في مارس 2015، كتب كيسنجر مقالاً قال فيه «تمثل القضية الأوكرانية إلى حد بعيد مكاشفة سياسية بشأن ما إذا كانت أوكرانيا ينبغي أن تنضم إلى الشرق أو إلى الغرب، لكن كي تبقى وتزدهر هذه الدولة، يجب ألا تكون مخفراً أمامياً لأي من الجانبين في مواجهة الآخر، وعليها أن تعمل كجسر بينهما».

يبني رجل الدبلوماسية التاريخي منطقه على قاعدة أن «اختبار السياسة هو كيف ننهي حرباً وليس كيف نبدأها»، ومن هذا المنطلق ركز مراراً وحذر من أن محاولات ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ستعطي نتائج عكسية وتداعياتها خطيرة.

دائماً كان الرجل الحائز على جائزة نوبل للسلام يحذر، وأمس كذلك حذر من التعامل مع روسيا بدونية مع تصاعد العداء الغربي ضدها، بل يرى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حجم وطبيعة وتاريخ روسيا.

وفي هذا المنظور، يجب أن يكون تحقيق الوضع المحايد لأوكرانيا وتشكيلها كجسر بين روسيا وأوروبا الهدف الرئيسي لمن يريد السلام ونهاية الصراع، وهذا لا يتأتى إلا بالمفاوضات والحوار بدلاً من صب الزيت على النار والإمعان في الخصومة الطائشة.

المسار التفاوضي الأشمل، وهو هنا بين روسيا والناتو، سيبحث حتماً عن حلول وسط، وتوفير سلّم لمن يحتاج للنزول عن الشجرة، إذ إن الوضع الحالي يذهب باتجاه خطر في كل احتمالاته، مثلما يرى خبراء كثيرون وعلى رأسهم كيسنجر، بمعنى أن سيناريو خسارة روسيا يعني حرباً عالمية ثالثة. لكن ماذا عن انتصارها؟ يقول كيسنجر: هذا يعني أن «وجود الناتو سيتحول إلى غبار».

وبغض النظر عن وجود هذا الطرف أو ذاك في أي طرف بالمعادلة، يصح هنا المثل الصيني القائل إنه «إذا أردت أن تحقق النصر على عدوك، فإنه يجب عليك أن توفر له جسراً للانسحاب»، سيما وأن أي حرب في التاريخ لا بد أن تنتهي بمفاوضات تحدد مسار صنع السلام، بعيداً عن الحشد وسباق السلاح وزحف الأحلاف ورفع منسوب الاحتكاك.

 

*كاتب فلسطيني

Email