لكل عصر متطلباته ومواصفاته ورموزه وأولوياته. وعلى رأس العوامل والأسباب المحددة والمُعَرِفة لهذه المتطلبات والمواصفات هم الناس أنفسهم، فمنهم ولهم وبهم تتغير العصور وسماتها. ومن يحاول استنساخ أولويات ومواصفات عصر ما مضت عليه دهور أو عقود دون النظر إلى العوامل التي تغيرت ومطالب الناس وأولوياتهم التي تبدلت، هو أشبه بمن يصر على الحرث في الماء.

وتأتي مكونات المفاهيم ضمن المتغيرات القومية كأيديولوجية ستبقى طالما البشرية باقية تتداخل مع الوطنية حيناً وتتشابك أو تتعارض معها حيناً، لكن يبقى المعنى المقصود من شعور جماعي بوعي مشترك (وليس متطابقاً بالضرورة)، وشيوع ثقافة فيها الكثير من السمات المشتركة مثل اللغة أو الانتماء أو التاريخ أو الجغرافيا أو الفنون أو العادات والتقاليد أو المعتقد هو المعنى المفهوم ضمناً بين الشعوب العربية.

الشعوب العربية بينها صفات وسمات وأسباب تجمعها أكثر بكثير من تلك التي تفرقها، ورغم ذلك، فإن الحديث في العقد الثالث من الألفية الثالثة عن قومية عربية بالمقاييس والمعايير والمواصفات التي كانت سمة «القومية العربية» في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي أدهشت الملايين من العرب إعجاباً وانبهاراً واشتياقاً لما يجمع ولا يفرق، وما يعد مصدراً للفخر والقوة لا الخزي والضعف يبقى في أغلبه حديث النوستالجيا والذكريات.

لكن لا «النوستالجيا» تبني أوطاناً، أو الذكريات تضمن ازدهار أمم أو حتى بقائها. اليوم تبقى الوطنية وكذلك القومية، ولكن على أسس وقواعد وأهداف تواكب وتوائم العصر لا أحلام فئة ممن يعيشون في كنف العصر.

القمة العربية الـ32 التي انعقدت في جدة خير دليل على استدامة القومية العربية، ولكن بمقاييس العقد الثالث من الألفية الثالثة. كتبت عبارة «القومية العربية» على «غوغل» فطالعتني النتائج التالية: «رفع كفاءة شارع القومية العربية في الجيزة لتحسين حركة سير المواطنين والمركبات»، «الفرقة القومية العربية للموسيقى أحيت حفلاً لأغنيات أم كلثوم على مسرح دار الأوبرا» «شرح فصل القومية العربية في منهج التاريخ للصف السادس الابتدائي»، «نتيجة مدرسة القومية العربية الإعدادية بنين» وتوالت نتائج البحث الذي قمت به من مصر، لذلك تلون بألوان محلية. وأغلب الظن أن البحث نفسه سيؤدي إلى نتائج مشابهة ولكن بلون دولة الباحث.

الباحث عن «القومية العربية» في عام 2023 سيجدها، ولكن ليس بالمواصفات ذاتها التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقت كانت «القومية العربية» بمعناها الشائع في أوجها. في تلك الحقبة، شهدت أفكار وأهداف وأحلام الوحدة العربية والتحرر والاستقلال وتحقيق النهضة وبناء جيوش قوية ومجتمعات صناعية ناهضة وقواعد علمية راسخة إلى آخر القائمة شيوعاً وشعبية تعلقت بهما آمال وأحلام ملايين العرب من المحيط إلى الخليج.

كان هذا عظيماً وجميلاً في تلك الحقبة، لكن الحقب لا تدوم، تمضي، وتأتي حقب أخرى وهلم جرا. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت دول عربية عدة خارجة لتوها من عقود من الاستعمار والاحتلال، وأخرى تطمح إلى الاستقلال، ومنظومات مثل اللغة والهوية والتاريخ في أوج إعادة اكتشافها، وأدرينالين المصالح المشتركة والماضي المشترك والمصير المشترك في عزه..

وغني عن القول إن اليوم هو امتداد للأمس، ولكنه ليس صورة طبق الأصل منه، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وهذا طبيعي، وغير الطبيعي هو ركودها أو جمودها، لذلك فإن الشعوب العربية مازالت تحلم وتأمل وتتعلق بالقومية، لكن نسبة العلم إلى الحلم صارت أعلى، أو تركيز الواقع مقارنة بالخيال أكثر.

أكثر ما يلفت النظر في القمة العربية الـ32 بالطبع هو عودة سوريا إلى الحضن العربي، وإلى حد ما حضور الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، لكن هناك كذلك الكثير مما يستحق الانتباه والتأمل، صحيح أن المنطقة العربية العامرة بصراعاتها تفرض هذا المكون على الطاولة، حيث سوريا الخارجة لتوها من حرب أهلية دامية، وليبيا المتأرجحة بين حكومتين، والسودان الداخل لتوه معترك الصراع المسلح، لكن على الطاولة أشياء أخرى.

أشياء كثيرة يطرحها العرب حالياً تتصل بالقومية، التاريخ والجغرافيا واللغة وجوانب عديدة من الثقافة تجعل ملايين العرب متلاصقين متشابهين، دون شرط التطابق، وهذا لا ينقص أو يقلل من شأن قيم الوحدة والتعاون والتكاتف والتآزر والمناصرة.

القومية العربية اليوم تأتي بمفهوم أكثر استدامة وواقعية وقابلية للتنفيذ، المصالح للجميع والمزايا للجميع والتضحيات من الجميع، والمردود - الإيجابي والسلبي - على الجميع أيضاً.

الملاحظ كذلك أن الشعوب نفسها وأحاديث الشوارع العربية عن الوحدة والرؤى والتعاون والسوق العربية المشتركة صارت أكثر نضجاً ووعياً، يبدو أن الثورة الرقمية، وقفزات العلم والمعرفة جعلت الشعوب أكثر واقعية وأعمق وعياً.