من مظاهر الثورة الرقمية التي اجتاحت العالم ظهور منصات التواصل الاجتماعي، على اختلاف أشكالها وأنواعها، مثل يوتيوب وفيسبوك وتويتر وانستغرام وسناب شات وغيرها، وكذلك تطبيقات المراسلة والدردشة الفورية الفردية والجماعية، مثل واتسآب وتلغرام وغيرها، والتي جذبت ملايين المستخدمين من كل أنحاء العالم، وأتاحت لهم نشر التدوينات والصور والمقاطع المرئية والتفاعل والتراسل بينهم، بل أصبحت هذه الأدوات جزءاً من حياتهم اليومية، وبمقدار ما تحقق من ذلك من إيجابيات عديدة لا تنحصر فقد ترتب عليه سلبيات كثيرة أيضاً تحتاج إلى وعي، كما هو الشأن في أي سلاح ذي حدين.
لقد أصبحت هذه المنصات جزءاً من الواقع اليوم، تستخدمها الحكومات والمؤسسات والجهات والأفراد والمنظمات، وقد كان لها دور كبير في إدارة أزمة «كورونا» على سبيل المثال، فقد أسهمت في نشر المعلومات الصحية والوعي لدى الناس، بجانب دورها كأدوات للتراسل والتواصل في أوقات الحجر، ولكن في المقابل كانت هذه الأدوات نفسها تمثل تحدياً وعقبة في إدارة هذه الأزمة، بسبب الآراء المناهضة التي كانت تُزيِّف الوباء، وتستهين به، وتهدم جهود مكافحته، كما كانت هذه الأدوات وسيلة لمساعدة المنكوبين، فقد رأينا كيف أسهمت في إنقاذ بعض المحاصرين تحت الأنقاض في زلازل سوريا وتركيا، حيث كانت المقاطع التي أرسلها هؤلاء عبر تطبيقات المراسلة سبباً في تحديد أماكنهم والوصول إليهم وإنقاذهم وإنقاذ عائلاتهم، إلى غير ذلك من الإيجابيات الكثيرة التي ترتبت على هذه الوسائل والتقنيات، فهي نعمة كبيرة من نعم الله تعالى، إذا سخرها الإنسان فيما ينفع ويفيد.
ولأن استخدام هذه الأدوات لا يتوقف على الهادف المفيد، فإن هناك العديد من المهددات التي ترتبت عليها، وقد أدى توسع شركات التقنية الكبرى في حريات التعبير والتي هي في واقع الأمر سياسات مزدوجة إلى إتاحة فرص النشر والترويج أمام مختلف التيارات والتوجهات والتنظيمات والأحزاب، وأصبحت الكلمة والصورة أسلحة تستخدم في خدمة الأجندات والأيديولوجيات المختلفة، وأصبحت الإشاعات والمعلومات المضللة والتحريض وسائل لتحقيق الغايات والأهداف المغرضة، وخاصة في ظل ما تتمتع به هذه الأدوات من الانتشار الفائق، وسهولة الوصول إلى مختلف الشرائح، وتجاوز كل الحدود المكانية والزمانية.
فقد رأينا تأثير هذه الوسائل في إشعال موجات الاحتجاجات والحروب الأهلية في الشرق الأوسط عام 2011، كما رأينا بعد ذلك توظيف التنظيمات الإرهابية وبالأخص تنظيم «داعش» لهذه الأدوات للدعاية والاستقطاب والانتشار في العالم الافتراضي، ما كان له أسوأ أثر، وهو ما خلق استنفاراً دولياً آنذاك ضد هذه الشركات لتعديل سياساتها، لتجفيف منابع النشر أمام المتطرفين، وعلى الرغم من ذلك فلا تزال هذه المواقع إلى يومنا هذا ملاذاً لمن يروجون لرؤوس الإرهاب والتطرف في الشرق والغرب، وينشرون أجنداتهم، على اختلاف أديانهم ومللهم، كما غدت هذه الأدوات وسيلة لنشر مختلف الأجندات، بما فيها الأجندات الهدامة والشاذة، وبالأخص من قبل مجموعات الضغط والمؤدلجين الذين يتاجرون بحقوق الإنسان، لفرض أنظمة وقوانين وثقافات على الدول والحكومات، ونزع هويات المجتمعات، وهو ما أتى بردات فعل عكسية في الغرب نفسه، الذي بدأ يلفظ المثاليات الليبرالية التي أفرطت في الحريات الفردية، وجعلتها قوالب للهيمنة الأيديولوجية، وها هي اليوم تيارات اليمين المتطرف تتمدد في هذا الغرب نفسه.
وإذا كنا نتحدث عن آثار مواقع التواصل الاجتماعي كنافذة لنشر المعلومات المضللة والاستقطابات الأيديولوجية والتحريض ضد الدول والمجتمعات من قبل أحزاب وتنظيمات وأفراد فإن الأمر لم يعد اليوم يتوقف على تأثير العنصر البشري فقط في هذا المضمار، وخاصة في ظل تنامي الذكاء الاصطناعي وبروز روبوتات المحادثة وغيرها، فقد بدأت المخاوف تزداد بشأن تأثير هذه الأدوات في ضخ المعلومات المضللة والمتحيزة، حيث إن طبيعة عملية التعلم الآلي وبناء الخوارزميات لدى هذه الروبوتات تعتمد في الواقع على البيانات الموجودة بالفعل، فهي ليست بمنأى عن التحيزات والتضليل، فضلاً عن فبركة الصور وغيرها عبر هذه التقنيات، ولذلك ظهرت اتجاهات لسن قوانين لتنظيم أدوات الذكاء الاصطناعي.
إن كل ما سبق يملي على المجتمعات التحلي بالوعي والمسؤولية، والتمسك بقيم المواطنة الإيجابية، والالتفاف حول قيادتهم، والمحافظة على أمنهم واستقرارهم وتلاحمهم، والاستخدام الرشيد لمواقع التواصل الاجتماعي، بما يعكس جمال قيمهم، ورقي مبادئهم، وعمق وعيهم ويقظتهم، ويخدم وطنهم ومجتمعهم ومصالحهم العليا.