روسيا.. معركة على جبهة الوعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حفل للمبدعين الصغار جرى في موسكو، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاضراً، برز أحد الأطفال في المعلومات الجغرافية، لدرجة أنه لفت نظر بوتين الذي صعد إلى المنصة وسأل الطفل: ما هي حدود روسيا؟، وبعد أن عدّد الطفل بطلاقة الدول التي تحد روسيا، قال بوتين ضاحكاً للطفل: روسيا لا حدود لها. وحين غادر المنصة ووجد نفسه في مواجهة الصحافيين، قال: أنا أمزح!. وبطبيعة الحال ليس ثمة أفضل من «المزحة» لتمرير موقف أو توصيل رسالة لمن يهمه الأمر.

وفي حضرة الأطفال يصبح الأمر متعلقاً بمستقبل البلاد، إذ إنهم سيتحولون من أطفال إلى صانعي أحداث ومؤسسي مرحلة، وكل ذلك وفقاً لمنظومة الوعي التي نشأوا عليها.

كان لسان حال بوتين في تلك الواقعة أن يضع الجيل الروسي الجديد على سكة بعيدة عن سكة ما يمكن تسميتها بـ «اليلتسنية»، وهي مرحلة استمرت خمس عشرة سنة، أي منذ تسلم ميخائيل غورباتشوف رئاسة الاتحاد السوفييتي منتصف العام 1985 ثم تولي بوريس يلتسين رئاسة روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي أواخر العام 1991، إلى أن تسلّمها بوتين عام 2000.

المرحلة الغورباتشوفية اليلتسنية بدأت بما سميت «البريسترويكا» و«الغلاسنوست»، الأولى «إعادة البناء» والثانية «الشفافية»، وكان الشعاران يرمزان إلى ما اعتبر ترهلاً بنيوياً في مؤسسات الدولة السوفييتية، وغياباً للانفتاح والشفافية، وفي ذلك تبدو رائحة التأثير الغربي جلية.

من الناحية النظرية، بدا الشعاران جيدين وجديرين بالاهتمام والبناء عليهما، وقد حظيا بالترحيب، وأحياناً بالإعجاب الشديد، من جانب حتى من هم في قلب اليسار السوفييتي واليسار عموماً.

لكن البعض اعتبر أن العلّة دائماً تكمن في التطبيق، حتى لا ينجح مسار ما ولا يصل الهدف.

وإذا اعتبرنا ذلك صحيحاً على نحو عام، فإن التطبيق ليس مسألة ميكانيكية، أي أن الأمر ليس مجرد خطة سنوية أو خمسية أو عشرية لتحقيق منظومة أهداف في مجال ما. هنا يتعلق الأمر بمسار يحدد مصير بلد وشعب ويرسم معالم مستقبله ومستويات معيشته وعلاقاته بالقريب والبعيد من الدول، في عالم لم يخرج من الصراعات وقرقعة الأسلحة منذ قرون.

طوال سبعة عقود كان الشعب السوفييتي المتعدد القوميات والأديان، يحمل ثقافة خاصة تختلف عن ثقافة الغرب، وذلك بسبب طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي، بما فيه الحزبي، وما يترافق مع ذلك من أساليب مختلفة في التعليم والإعلام ونمط الحياة غير الاستهلاكي.

في تلك الحالة، وفي عالم بات أشبه بالأسرة الواحدة معرفياً، لا يمكن فتح الأبواب على مصراعيها مرة واحدة وبلا ضوابط، ثم نقول إننا نريد إجراء تغيير أو إصلاح أو إعادة بناء.

كانت من أوائل ذلك الانفتاح غير المنضبط، حرب ناغورني كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان التي تتجدد بين الحين والآخر، وآخرها ما يجري هذه الأيام على الحدود بين دولتين كانتا جمهوريتين في دولة واحدة.

التغيير معركة يجب أن تدار بأساليب علمية مدروسة ومحسوبة، وتراعي الظروف الذاتية والموضوعية وموازين القوى، مع عدم إغفال الحالة الصراعية التي يعيشها العالم.

ربما كان ما حصل هو الدافع خلف قول بوتين «من لم يحزن على تفكيك الاتحاد السوفييتي بلا قلب، ومن يريد عودته بلا عقل». إذن هي تجربة تستوجب الدراسة، ما يفضي بالضرورة إلى العودة إلى إيجابيات تلك المرحلة، وهي كثيرة، وتجنّب سلبياتها.

من يتابع خطابات بوتين وغيره من قادة روسيا يدرك أنهم يحاربون على جبهة الوعي، وفي صميم هذا الوعي أن العداء الغربي لروسيا متأصل ويعود إلى مئات السنين، ولا يرتبط بالأيديولوجيا التي تحكمها، والأدلة على ذلك كثيرة، منها مثلاً بقاء حلف الناتو وزحفه شرقاً رغم تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، بل ورفض الاتحاد الأوروبي لإنشاء شراكة مع روسيا بل وحتى تعاون، رغم أن هذا الاتحاد أشد حاجة إلى روسيا مما هي تحتاجه.

في هذه المعركة على جبهة الوعي، لا ينبغي إغفال العديد من الأصوات في أمريكا وأوروبا، التي تدعو إلى إعادة صياغة العلاقة مع روسيا، التي يراها البعض دولة نووية، ويراها البعض الآخر منجم العالم ومستودع غذائه الرئيس، وكذلك دولة تتكئ على إرث حضاري ضاربة جذوره في التاريخ.

 

* كاتب فلسطيني

Email