سارقو العيد!

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول الحميدي في كتابه جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، وهو يتحدث عن تصارع المتنافسين على الحكم في منطقة صغيرة في جنوب الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية: «فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يُسَمَّى بأمير المؤمنين في رقعةٍ من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً في مثلها»!

بعد الحرب العالمية الأولى وتشظّي أوروبا إلى دويلات صغيرة خلفت الإمبراطوريات الكبيرة قبل الحرب كان المتوقع أن تزدهر هذه الدويلات لكونها متناغمة عرقياً ومتماثلة ثقافياً، وأقدر على إدارة الحيز الجغرافي الأصغر، ولكن ما حدث هو العكس، إذ يبدو أن الكيانات الكبيرة تجعل التمرد الداخلي عليها مكلفاً بعكس الصغيرة، حيث القوة الأقل والإمكانات الأدنى والحيز الصغير الذي يمكن التحرك فيه بسرعة أكبر، لذلك اشتعلت الخلافات الداخلية وطمع بها بالتالي من يملك القوة الأكبر والرؤية الأوسع، حينها كانت رحلة أوروبا للحرب العالمية الثانية أمراً لا مهرب عنه!

التشظي دوماً لا يقدّم حلاً لمشاكل قائمة، بل يحمل معه بذور التمزق ليصبح حصادها أكثر مرارة، ولسنا في عالمنا العربي باستثناء مما يجري في العالم، فالسودان -وهو بطل أحداث هذه الفترة للأسف- بعد أن انفصل (استقل) جنوبه وخسر معه 75 % من موارده النفطية، التي تعد مصدر 80 % من موارد النقد الأجنبي و50 %من إيراداته العامة، ها هو يسقط أكثر في هاوية لا يُعلَم قعرها بعد أن اختلف العسكر وسُلِّطت بنادقهم على بعضهم البعض وكأن البلد المأزوم يحتاج إلى جراح جديدة تزيد أوضاع سُكانه -الذين يقع نصفهم دون مستوى الفقر- بؤساً ومرارة!

للعسكر طريقة تفكير لا تعترف كثيراً بالخيارات الوسط، ولا تأبه إن أحرقت الجسور، فقد قال كبيرهم نابليون بونابرت ذات يوم: «الذين ولدوا في العواصف لا يخافون هبوب الرياح»، وكان يمتدح نفسه ويؤجج حماس قادته وجنوده، فساق فرنسا للحروب شرقاً وغرباً وكثرت بطموحاته البيوت المدمرة والصغار اليتامى والنساء الأرامل، لم يكن يعرف البناء ولكنه يعرف استعمال السلاح، وما دام لا يعرف سواه فسيستعمله لتحقيق أحلامه مهما كلّفه الأمر ومهما جرّ من بؤس على البسطاء، ولم ينسَ المؤرخون مقولته الشهيرة، التي يتبجّح فيها بقدرته على دفع جنوده للموت بأمور ساذجة وهو يغادر لمنفاه الأخير بجزيرة سانت هيلانا، عندما قال: «إن الجندي مستعد للقتال طويلاً وبشراسة من أجل قطعة قماش ملونة» وكان يقصد الأوسمة!

الدول لا تفشل إلا بسوء نوعية القائمين عليها الذين لا ينظرون أبعد من مصالحهم الشخصية على حساب وطنٍ بأكمله، فالسودان تمتلك مقومات زراعية تمكنها لتكون فعلاً سَلّة العالم، فبها 175 مليون فدان صالح للزراعة وغابات تجاوز ما مساحته 50 مليون فدان، آخذين في الاعتبار أن الفدان يساوي 4200 متر مربع، كما تملك مراعي مساحتها 118 مليون فدان يرعى بها أكثر من 100 مليون رأس من الماشية، بالإضافة إلى ثروات ومعادن أخرى منها الذهب والذي بلغ إنتاجه العام الماضي 105 أطنان،

لكن يبدو أنّ هذا البلد الطيب سيبقى منكوباً بأبنائه في المقام الأول، فما جرى بين المتصارعين على السلطة كان أسوأ ما يمكن أن يتمناه السودانيون في العشر الأواخر المباركة، وما فعله المتصارعون على السلطة كان أشأم ما قد يتوقعونه لأيام العيد التي لم تعد سعيدة، فالأخ يقتل أخاه، والطائرات السودانية تقصف الأراضي السودانية في مشهد محزن، وباشتباكات عنيفة أرضاً وجواً جعلت وصول الخدمات الإنسانية الإغاثية أمراً مستحيلاً، وتعرضت العاصمة لمشكلة كبيرة في توفير المياه والكهرباء لسكانها، بينما أعلنت نقابة الأطباء السودانيين عن خروج 16 مستشفى عن الخدمة جراء القصف!

إنّ من كان سبباً للمشكلة لا يمكن أن يكون وسيلة لحلها فالسودان يحتاج لتدخل إخوانه العرب وحكمة جيرانه قبل أن ينزلق في حربٍ أهلية جديدة تُنذر بتقسيمه مرّة أخرى، وما دامت الدماء قد سالت وفي البنادق ما يكفي من الرصاص فإن طائر الشر لن ينجلي عن سماء هذا البلد الطيب، وسيستميت اللاهثون لأجل الكرسي في فعل أي شيء حتى يصلوا لمراميهم ولو دمروا كامل البلد وأفسدوا معيشة أهله الطيبين، فقد قالها عن أمثالهم غاندي ذات يوم: «كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن»!

Email