سن الإجراءات لضبط الفتوى ضرورة عصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكَّد العلماء قديماً وحديثاً أهمية الفتوى، ومكانتها الجليلة، باعتبارها وسيلة لتبليغ الناس ما يحتاجونه من أمور دينهم، وما يستجد لهم من مسائل وقضايا، وركيزة من ركائز تحقيق المقاصد الكبرى التي جاءت الشريعة لحفظها، ورافداً مهماً من روافد دعم الأمن والاستقرار والسلم في المجتمعات، والارتقاء بالأوطان والمحافظة على مصالحها العليا.

وهنا تتجلى أهمية العناية بهذا المجال وتعزيزه أولاً، وتنظيمه وضبط شؤونه ثانياً، ليحقق غاياته وأهدافه المرجوة على أكمل وجه، وقد اعتنت دولة الإمارات بهذا المجال عناية كبيرة، وعملت على ترسيخ حضوره المجتمعي لخدمة الناس والإجابة عن تساؤلاتهم الشرعية وفق أفضل الممارسات الإفتائية القائمة على المعايير والضوابط الرصينة، وتجلى ذلك في إنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، ليكون رافداً يمد المجتمع بالفتاوى الشرعية التي يحتاجها، ويسهم في تنظيم أمور الفتوى وتأهيل المفتين، ليقوموا بدورهم على أكمل وجه في نفع مجتمعهم، وخدمة الناس بإمدادهم بالفتاوى الشرعية فيما تستجد لهم من قضايا ومسائل.

وتعزيزاً لهذا الجانب أصدر مجلس الوزراء قراره بشأن الجزاءات الإدارية التي تُفرَض على مخالفي أحكام مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، والذي دخل حيّز التنفيذ مطلع أبريل الجاري، ويشمل تغريم 8 أنواع من المخالفات، تدور حول إصدار الفتاوى الشرعية أو ممارستها أو نشرها دون تصريح من المجلس، ويشمل ذلك نشر الفتاوى عبر مواقع التواصل والمواقع الإلكترونية والبرامج التلفازية وغيرها، كما تشمل الطعن أو التشكيك بالفتاوى العامة التي يصدرها المجلس أو مخالفتها أو عدم الالتزام بها، إلى غير ذلك من الإجراءات التي تصب في مسار ضبط الفتوى، وتنظيم شؤونه في المجتمع.

ولا شك بأن ضبط الفتوى مسألة في غاية الأهمية، وذلك لصيانة الدين الحنيف من العبث والمتاجرة والجرأة عليه، فإن حفظ الدين من المقاصد الكبرى التي جاءت الشريعة لحفظها والتأكيد عليها، وتيسيراً للناس ورحمة بهم، وحماية لهم من التشتت والحيرة والضياع بين الفتاوى المتناثرة، وصيانة لهم من الفتاوى الشاذة وما يعكر عليهم أو يهددهم من تطرف أو تعصب أو انفلات أو دعاوى تحريض وفتنة وغير ذلك، والناظر في العقود الأخيرة وخاصة مع بروز منصات التواصل الاجتماعي يرى ظاهرة الجرأة على الفتوى واضحة جلية، من كل من هب ودب، من تيارات وأحزاب وتوجهات وجهات وأفراد، حتى يضيع الإنسان في متاهات هذه الفتاوى، فلا يدري إلى أيها يتجه، كما كانت بعض هذه الفتاوى وخاصة تلك الفتاوى السياسية والثورية سبباً من أسباب إغراق عدد من المجتمعات في أتون الفتن والاحتراب والتصارع فيما بينهم، فكانت تحرض هذا الطرف على ذاك، وتبيح الاقتتال مع ذاك، وظهرت التنظيمات المتطرفة في العالم التي وظفت الفتوى لتكفير الناس واستباحة دمائهم، وساهم ذلك كله في رسم صورة مشوهة عن الدين، وإلصاق التهم الباطلة به.

إن هذا الواقع المرير بكل إفرازاته دفع بالعقلاء إلى التفكير ملياً في سد هذه الأبواب التي تهب منها تلك الرياح الساخنة، فكان ضبط الفتوى وسن الإجراءات لمكافحة الفوضى ضرورة شرعية وواقعية، كما يتأكد أهمية ذلك في ظل العولمة والفضاء المفتوح الذي أصبح فيه العالم كالقرية الصغيرة في سرعة التنقل والانتشار والاطلاع، مما أدى إلى سرعة انتشار الفتاوى على اختلاف أنواعها والهيئات الصادرة منها، والتي يرجع بعضها إلى بيئات مختلفة ذات ظروف وأحوال وأعراف معينة، والفتوى كما نص على ذلك العلماء تتغير بتغير الأزمان والأماكن والأحوال والأعراف، فما يصلح لمجتمع قد لا يصلح لمجتمع آخر.

إنَّ كل هذه المعطيات تبين أهمية علاج الفوضى في الفتاوى عبر تشريعات وإجراءات رادعة، لكف أيدي غير المختصين، وتوفير الجهات المختصة بالفتوى لتقديم الفتاوى الشرعية للناس، وفق الضوابط والمعايير الصحيحة.

وقد سار على هذا النهج الأئمة السابقون، فأكدوا أن من مهام ولي الأمر تفقد أحوال المفتين، وإيقاف من ليسوا بأهل للإفتاء، وسن الإجراءات لردعهم إن لم ينتهوا، وأن منهم من كان يُنصِّب للفتوى أقواماً يعينونهم، ويأمرون بألا يُستفتى غيرهم، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي وغيره من العلماء الذين كتبوا في مجال الفتوى، ومع تطور العمل المؤسسي في هذا العصر ظهرت مراكز الفتوى والهيئات الرسمية لتنظيم عملية الإفتاء للناس.

إنَّ الفتوى مسؤولية كبيرة، لا يتصدَّر لها إلا أهلها المختصون، الذين يراعون ضوابطها، ويتحرون مقاصدها، ويراقبون الله تعالى فيها، ويسعون إلى نفع الناس، والارتقاء بمجتمعهم ووطنهم.

Email