قبسات

قصة الخيط الأبيض والأسود

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو شاهدٌ يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، إنه رمضان، شهر الخير والبركة، شهر القرب والعبادة، شهر يزكي فيه المسلم نفسه بالصيام ويطهرها بالتقوى.. تتفتح فيه خزائن الفضل والرحمة والإحسان، وتُقبل ليالي الجود والغفران، يتهيأ فيه المؤمنون للعبادة المتواصلة، ويخلصون لله الطاعات.

وبين يَدَي القارئ الكريم استعراض لآية من آيات الصيام، وقراءة موجزة في مقاصدها وأحكامها، وتبيين لقصتها، علّها تكون عوناً للمسلم المعاصر في فقهها وتنزيلها على الواقع.

ولا يخفى أن الله جعل في رمضان لوجوب الإمساك من الطعام والشراب وقتاً واضحاً لا شبهة فيه، وهو طلوع الفجر الصادق الذي ينتشر فيه البياض من المشرق تباشير لطلوع الشمس، وهو ما عبّر عنه المتنبي بقوله:

وهبني قلت هذا الصبح ليلٌ * أيعمى العالمون عن الضياء؟

أمّا الإفطار فيقتضي أن يكون عند غروب الشمس، بل نَبّه بعض المفسرين إلى أن استعمال حرف الجر (إلى) في الآية يفيد التعجيل أيضاً.

وقد جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال: أُنْزِلَت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم يَنْزِل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني: الليل والنهار. فهؤلاء الصحابة حَمَلُوا الخَيْط على ظَاهِره، فَلمّا نَزَل (مِنَ الْفَجْرِ) علموا المُراد.

وقد جاء في «الصحيحين» عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، عمدتُ إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلتُ أنظر في الليل، فلا يستبين لي، فغدوتُ على رسول الله، فذكرتُ له ذلك، فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».

وفي هذه الآية: روعة الاستعارة ومناسبتها (الخيط الأبيض) لبياض الفجر، و(الخيط الأسود) لسواد الليل، ومنهم من جعله تشبيهاً لدلالة (من الفجر) فأغنت عن الليل، حيث لم يقل: (من الليل).

ومن الأحكام المستنبطة من الآية الكريمة: أنّ مَنْ شك في طلوع الفجر، فله أن يأكل ويشرب حتى يتيقن طلوعه، لأن الله تعالى قال: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ). وعلى العكس من أفطر قبل غروب الشمس، يظنها قد غربت، فإنه يبطل صومه! لأنه مطالَب بإتمام الصيام إلى الليل الذي لا يبتدئ إلا بغروب الشمس، فاستصحاب حكم النهار بالصوم واجب عليه حتى يتيقن دخول الليل الذي هو نهاية الصوم وغايته.

فيا ذوي الهمم العالية، ويا ذوي المطالب الرفيعة السامية: إن الأوقات الفضائل فوات، ألا فَشمّروا لقِرى رمضان بالتوبة والإنابة، وابذلوا في ضيافته مقدوركم من الأعمال المستطابة، وأَروا الله الخير من أنفسكم فيه، فإن الله تعالى ينظر إلى جِدّكم وتنافسكم فيه.

Email