شخصيات تحت المجهر

برهان الدين باش أعيان.. رجل عاش في قلب العواصف

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين الشخصيات التي احتضنتها السعودية وحفظت كرامتها ووفرت لها الأمن والأمان، شخصيات تركت وطنها العراقي مضطرة بسبب الزلازل السياسية المدمرة التي شهدها هذا القطر العربي في تاريخه المعاصر، أو جراء تعرضها للظلم. ولعل أبرز هؤلاء هو المرحوم «إبراهيم برهان الدين أحمد نوري باش أعيان»، الذي يعد شخصية وطنية قدمت لبلدها عصارة فكرها وتجربتها من خلال توليها مناصب وزارية مهمة في حقبة الخمسينات، بل هو سليل أسرة لها بصمات تاريخية واقتصادية واجتماعية في تاريخ العراق الحديث بصفة عامة وتاريخ مدينة البصرة بصفة خاصة.

للحديث عن هذا الرجل الذي كان شاهداً على حقبة من أكثر الحقب زخماً بالتقلبات السياسية في العراق، ومعاصراً لكل التحولات والأحداث والحروب والمؤامرات التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الأولى. سنعتمد على بعض المؤلفات التي صدرت عنه، وخصوصاً كتاب أصدره ابنه الباحث السعودي أحمد برهان الدين المهتم بالتاريخ والأديان والأدبين العربي والإنجليزي.

ولد إبراهيم برهان الدين باش أعيان في 10 يونيو 1915 بالبصرة ابناً ثالثاً لوالديه المنتميين لأسرتين من أسر العراق الكريمة المعروفة. فأبوه هو أحمد نوري آل باش أعيان العباسي الهاشمي من كبار الملاك والتجار والوجهاء بالبصرة، والذي يتصل نسبه بالعباس بن عبد المطلب (عم الرسول صلى الله عليه وسلم) عن طريق سلسلة من 14 خليفة من خلفاء بني العباس ابتداءً من الخليفة أبي جعفر المنصور وانتهاءً بالخليفة المستضيء بالله. ووالدته هي «سنية» كريمة عبد المجيد الشاوي من شيوخ عشيرة العبيد العراقية وممن يتصل نسبهم مباشرة بملوك مملكة حمير القديمة في اليمن.

عند ولادة صاحبنا أعطاه والده اسماً مركباً هو «إبراهيم برهان الدين»، لكن جرت العادة على مناداته بالشق الثاني من اسمه فعرف به طيلة حياته دون الشق الأول. وكانت نشأته وسط عائلة أعطته الحب والحنان والاهتمام الكبير، لكنها كانت أيضاً صارمة في تربيته، وزارعة الخصال الحميدة فيه، فنشأ على عزة النفس واحترام الآخر والكرم وشجاعة القول وتحمل المشاق والمنافسة الشريفة مع أقرانه والتفوق في الدراسة وعشق ممارسة الرماية وركوب الخيل وكرة القدم.

حينما بلغ الخامسة ألحقه والده بروضة إحدى مدارس الراهبات بالبصرة، ومنها انتقل لدراسة الابتدائية بمدرسة السيف الحكومية القريبة من دار أسرته. وفي سن الثانية عشرة، وافق والداه على رغبته بإتمام دراسته المتوسطة والثانوية في الكلية العامة التابعة للجامعة الأمريكية ببيروت، أسوة بشقيقه عبد الرحمن. وهكذا فارق الرجل والديه لأول مرة في حياته متجهاً إلى بيروت في أولى رحلاته بعيداً عن وطنه، فوصل بيروت براً في عام 1927، والتحق بمدرسته التي زامل فيها طلبة عراقيين من أسرتي الزهير والنقيب وطلبة كويتيين مثل بدر البدر القناعي والشيخ محمد الأحمد الجابر الصباح.

خلال دراسته ببيروت لوحظ على برهان الدين عزوفه عن دراسة المواد العلمية وشغفه بدراسة المواد الأدبية والإنسانية، وكان ذلك بتأثير من الأجواء السياسية التي نشأ فيها بالبصرة في فترة تميزت بتغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى، وما طغى لاحقاً على الساحة العربية من قضايا وطنية وقومية، ناهيك عما هيأته له بيروت من فرص الاطلاع على ثقافات وأنماط جديدة من التفكير والاحتكاك. حيث تولد لديه إحساس بأن التخصص في العلوم الإنسانية هو السبيل الأمثل لخدمة وطنه وتخليصه من القيود والنهوض به.

ولهذا نجده بعد تخرجه من الكلية العامة والتحاقه مباشرة بالجامعة الأمريكية يلتحق بكلية الحقوق التي أمضى بها سنة دراسية يتيمة، قرر بعدها العودة إلى العراق لمواصلة دراسة الحقوق بجامعة بغداد. يقال إن سبب انتقاله هو شعوره بأن جامعته مرتبطة بأهداف استعمارية، وبالتالي عدم صلاحيتها لشاب مثله ذي ميول وطنية وينتمي إلى أسرة ربته على معاداة الاحتلال البريطاني لوطنه. لكن هناك تفسيراً آخر ربما كان أقرب إلى الصواب هو تزامن فترة دراسته في لبنان مع تعرض أسرته لسلسة من الأزمات المالية، كغيرها من الأسر العراقية، بسبب ظروف الكساد العالمي.

تخرج من حقوق بغداد صيف 1937 وقد ازداد شعوره بهويته القومية كعربي انسجاماً مع التيار السائد آنذاك بين أبناء جيله، وبدأ على الفور مزاولة مهنة المحاماة، لكنه شعر بعد فترة قصيرة بالحرج من تقاضي الأتعاب ممن كان يدافع عنهم من أصدقائه ومعارفه وأصحاب الدخول الضعيفة، فترك المحاماة قائلاً: إنه تربى في كنف أسرة تعودت على العطاء لا الأخذ. وكان وقتها مستاءً لعدم تمكنه من تحقيق طموحه بمتابعة دراساته العليا. بعدها استجاب برحابة صدر لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية كونها تنمي في المرء مزايا الرجولة والاعتماد على النفس، متجنباً اللجوء إلى استخدام مكانة عائلته الرفيعة لإعفائه من الخدمة.

في سنة 1938 التحق بالسلك الدبلوماسي، فمثّل العراق في بلاد عريقة حضارياً مثل مصر وفلسطين وتركيا وإيران وبريطانيا، فكان أن صقلت مهنته وأسفاره وتنقلاته شخصيته ووسعت مداركه وتجاربه، ما جعله يعيد النظر في بعض الافتراضات التي بدأ بها مرحلة صباه وشبابه، ويقيّم من جديد الاستنتاجات السابقة المترتبة على تلك الافتراضات.

تزامنت الفترة الأولى من حياته المهنية ما بين عامي 1937 و1948 مع أحداث شخصية محزنة منها وفاة عدد من أفراد عائلته كوفاة والده الذي كان يمثل له سنداً وموجهاً، ومنها تعرض عائلته للمزيد من الصعوبات والأزمات المالية لأسباب داخلية وعالمية. كما شهدت الفترة ذاتها أحداثاً جساماً على الصعد الوطنية والعربية والعالمية. مثل انقلاب الفريق بكر صدقي سنة 1937، ومقتل الملك غازي عام 1939 في ظروف غامضة، ووقوع حركة رشيد عالي الكيلاني، واندلاع الحرب العالمية الثانية بكل آثارها المعروفة على البلاد العربية ولا سيما العراق الذي كان له نصيب وافر من تداعياتها بسبب موقعها الاستراتيجي وخيراتها، وغيرها من الأمور الأخرى.

في السنوات الست التالية (من 1948 إلى 1954) انتقل برهان الدين إلى مرحلة العمل النيابي والحزبي. حيث دخل البرلمان كنائب مستقل منتخب عن البصرة وساهم مع مجموعة من النواب في تأسيس كتلة برلمانية معارضة مطلع 1951، سرعان ما تحولت إلى حزب سياسي باسم «الجبهة الشعبية المتحدة». والحقيقة أن انخراطه في هذه التجربة البرلمانية والحزبية ساعده على بلورة موقفه من العديد من القضايا الداخلية والخارجية السياسية المعقدة، خصوصاً وأن تلك الفترة حفلت بالإضرابات السياسية والتحركات الحزبية والشعبية المطالبة بالإصلاح، وبروز الحزب الشيوعي العراقي المعادي للملكية والقوى المحافظة.

تزايدت المخاوف حينها داخل العراق وبعض بلدان المنطقة من أخطار الشيوعية، ما حدا بدول مثل العراق وإيران وتركيا وباكستان للتنسيق والتعاون وإبرام الاتفاقيات التي تطورت إلى قيام حلف بغداد. وكان برهان الدين قد لاحظ في أوائل الخمسينات تسلل زملائه خارج حزبه، فبدأ يشك في جدوى العمل الحزبي كوسيلة لمعالجة قضايا الوطن والأمة، وهو ما دفعه إلى فكرة العمل من داخل الحكومة وليس من خارجها لتحقيق مبادئه السياسية في خدمة وطنه وشعبه. لذا فعندما دعاه نوري السعيد في صيف 1954 للانضمام إلى حكومته باعتباره من العناصر الشابة ومن ذوي الكفاءة والخبرة، متجاوزاً وقوفه موقف المعارض لسياساته، وافق برهان الدين فعهد إليه بمنصب وزير دولة للشؤون العربية، تلاه منصب وزير الخارجية بالوكالة، ثم منصب وزير الخارجية بالأصالة على إثر استقالة موسى الشهبندر في 1955 بسبب متاعب صحية.

مثّل ذلك منعطفاً مهماً في مسيرته، وبداية لشغله حقائب وزارية في حكومات عراقية متتالية شكلها نوري السعيد وعبد الوهاب مرجان وأحمد مختار بابان. والجدير بالذكر أنه رغم احترافه حمل حقيبة الخارجية في التشكيلات الوزارية، إلا أن نوري السعيد عهد إليه بحقيبة الإرشاد والتوجيه (الإعلام) في الحكومة الأخيرة التي شكلها سنة 1958. وبهذا يكون صاحبنا أول وزير للإعلام في تاريخ العراق، وقد احتفظ بمنصبه هذا في الحكومة التالية برئاسة احمد مختار بابان في 19 مارس 1958.

وكما هو معروف سقطت الملكية العراقية في 14 يوليو 1958 على إثر انقلاب قاده ضباط الجيش، فكان انتقام العسكر من رموزها الكبار وحشياً، أما الوزراء والضباط الموالون للملكية، ومنهم برهان الدين الذي تعرضت أسرته في البصرة لشتى الإهانات والمصاعب، فقد جرى اعتقالهم من منازلهم وزجهم في المعتقلات تمهيداً لمحاكمتهم من خلال محكمة الشعب التي اتهمت صاحبنا بجملة من الاتهامات منها العمل على دفع سياسات العراق نحو وجهة تخالف مصلحة الوطن. وفي النهاية صدر الحكم بإعدامه فتقبله برباطة جأش، ليقتاد إلى زنزانة رهيبة تعرض فيها لشتى أنواع التعذيب النفسي والبدني قبل أن يتقرر في 14 يوليو 1961 العفو عنه وإطلاق سراحه مع آخرين.

بعد خروجه من العمل وجد أن الإقامة والعمل في العراق لمن كان مثله لم يعد آمناً أو متاحاً، فقرر الانتقال إلى لبنان الذي لم يجد فيه مصدراً للرزق يؤمن له حياة كريمة آمنة، لذا فحينما عرضت عليه السعودية أن يتولى وظيفة مستشار سياسي بوزارة خارجيتها بجدة كمتعاقد أجنبي وافق. وهكذا استقر به المقام مع أسرته هناك من أواخر عام 1963.

وفي عام 1965 تم نقله لوظيفة مستشار قانوني لوزارة الدفاع السعودية بالرياض. وخلال فترة مكوثه بالسعودية كان يتابع أحداث العراق بألم وحسرة، وراحت أحزانه تتراكم برحيل عدد من أقاربه وأصدقائه في العراق دون أن يراهم أو يشارك في توديعهم، ومنهم صديقه المقرب اللواء الركن غازي الداغساتي نائب رئيس أركان الجيش الملكي الذي فجع بوفاته في منفاه بلندن سنة 1966، ثم زادت آلامه حينما رفضت السفارة العراقية بجدة تجديد جواز سفره وطلبت منه أن يجدده شخصياً في العراق، وهو ما دفعه في 1974 إلى مفاتحه المسؤولين السعوديين بمنحه جواز سفر بديل، فجاءت موافقة الملك فيصل على منحه وكل أفراد أسرته الجنسية السعودية في 5 مارس 1975، ما سهل عليه إلحاق ابنه الأوسط «علي» بكلية البترول والمعادن بالظهران، والسفر إلى الأردن لملاقاة بعض أقاربه.

وبعد أسبوعين من رحيل الفيصل أصيب برهان الدين بنوبة قلبية أدخلته المستشفى بالرياض، ثم عاودته نوبات مشابهة عدة حتى وفاته سنة 1975 في الأردن بعد ستة أشهر من إصابته الأولى.

Email