لأجل إعلام عربي فاعل

ت + ت - الحجم الطبيعي

معظم المقاربات العربية لدور الأدوات الإعلامية في معالجة القضايا الخارجية الساخنة، مازالت تنطلق محفوفة بتصور وفكرة مسبقة، في توصيل وجهة النظر العربية والاشتباك الفاعل مع الخطابات والرؤى المغايرة أو المضادة على الصعيدين الإقليمي والدولي. أما الفكرة المسبقة فمحورها المبالغة في توقع تأثير النشاط الإعلامي، على نحو يجعله في صدارة مداخل التعامل الدولي،التي يتوقف على أدائها كسب قضايا الأمة أو خسارتها.. بشيء من التأمل، تتجلى الصلة القوية بين هذين المنطقين.. فإلقاء اللوم على الإعلام إلى حد تحميله ما لا طاقة له بتحقيقه، لا يبرره سوى تعظيم دوره بين أسباب الإنجازات أو الانتكاسات. وهذه فرية لا يقرها ولا يدعيها فقه العلاقات الدولية.. إذ إن الإعلام أداة واحدة في ضفيرة سميكة من الأدوات الرديفة والموازية، التي يشد بعضها بعضاً.

ولا شك أن الإعلام المهني الحكيم هو الذي يتفهم الملفات والقضايا المطلوب معالجتها، وربما اقتضت المصلحة أن يشارك القائمون عليه في إعداد هذه الملفات وتصفيفها من الأصل، وذلك لدرايتهم المفترضة بالبيئة المناسبة للخروج بها والدفاع عنها على الملأ، بما يحقق الأهداف بأقل تكلفة مادية ومعنوية. ثم إن الإعلام يواكب مسيرة الأحداث والقضايا، ويعنى بالتوضيح وتعبئة الرأي العام من حولها، داخلياً وخارجياً، بما يخدم موقف الطرف المعني ويستقطب له التأييد والمؤازرة.. وهو في كل الأوقات يظل عاكفاً على الإضاءة حول ما جرى ويجري، مستمراً في وظيفته التوعوية الموجهة، والاشتباك مع الدعاوي المعادية لإسقاط حجيتها. لكن الإعلام على أهميته في ضوء تجليات العولمة وآياتها، وكثرة ما تملك يمينه من وسائل متنوعة صنعها التقدم التقني في البر والبحر،لا يسعه إنشاء صروح بطولية من العدم.

المدهش أن هذه التعميمات على شهرتها ورسوخها نظرياً وتطبيقياً، ما زالت أقرب إلى الغياب أو التجاهل في سياق بعض الاجتهادات، التي تبكت الأداء الإعلامي العربي حقه بشأن كثير من شواغل الأمة. نلمس ذلك لدى قطاع عربي معتبر من أهل الرأي، لاسيما أصحاب النزعة الأمنياتية الرغبوية، الذين يودون أن يبلغوا بالإعلام ما لا يمكن بلوغه إلا بتسخير بقية أدوات التعامل الدولي الظهيرة: الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية والحقوقية القانونية، فضلاً عن التواصل والتفاعل مع جماعات الضغط والحشد المدنية.. والمراد بذلك كل ما يندرج في إطار ما يعرف بمكونات القوة الشاملة.

من يطالع خطاب هؤلاء عن كثب، يكاد يلحظ مدى هيمنة الأداة الإعلامية المختلطة ببعض المضامين الدعائية،على بقية هذه المكونات، وأغلب الظن أن هذا الخطاب الزاعق المبتور أو المنقوص، المفعم أحياناً بالشكوى والأنين، لا يفيد كثيراً في كسب التعاطف العالمي مع القضايا العربية.

نود القول، إن الأولوية التي يحظى بها الخطاب الإعلامي تؤدي دوراً كبيراً في عوار الأداء العربي الخارجي العام، فهذه الهيمنة تمثل ترتيباً غير متوازن لما ينبغي التعامل أو الاشتباك به مع عوالم الآخرين، فالمبادرات الإعلامية قوة وفاعلية وضعفاً وهشاشة، إنما تلحق بأداء العناصر الأخرى وتتعامد معها وتستند إليها. لنتذكر مثلاً، الأصداء الإيجابية التي أحاطت بالإعلام العربي في الإطار العالمي، دون استثناء دوائر غربية واسعة كانت تضمر الخصومة، إبان الصلابة العربية وحسن توظيف كل الموارد في حرب أكتوبر 1973. لقد حدث هذا منذ خمسين عاماً، ولكن المفارقة الماثلة الآن، التي تعرض نموذجاً سلبياً يحتاج إلى التدبر في هذا المقام، كيف يسهم حال القوى الفلسطينية الموسوم عن حق بالانقسامات متعددة المظاهر وغياب الوحدة الوطنية والوقوع في أحابيل أوضاع توحي بالتيه الاستراتيجي على أكثر من مستوى، وما يتأتى عن ذلك من سلبيات تطال الكثير من أبعاد الحياة السياسية وغير السياسية، في انفصام الخطاب الإعلامي الفلسطيني الدولي عن الواقع وضعف حضوره وإشعاعه.

ما نجادل به هنا أن الإعلام الذي يغرد وحيداً في الميدان، أو يبث محتواه بمعزل نسبي عن عناصر القوة الأخرى، أو يتعمد إنكار الواقع والقفز عن الحقائق المنظورة والتعمية عليها، لا يعمّر طويلاً في الأرض ولا يحلق عالياً في الفضاء، ولا يسمع في التحليل الأخير سوى صدى صوته.

 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email