من أوراق رمضان القديمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الشمس قد أزفت على الغروب وقد اجتمع أهل الحي أمام أحد البيوت ليفطروا معاً كعادتهم، يأتي أحد «شيبانهم» متأخراً وقد بدت ملامح الإعياء عليه، لأنه قضى يومه بحثاً عن ناقة هاربة له في الصحاري المحيطة، وما أن يؤذن المؤذن حتى يبدأ الشايب في الأكل دون توقف، فحاول أحد أقرانه أن يوقفه، وهو يخبره بأن سُنّة النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يأكل تمرات مع رشفات من الماء، فيرفع له الشايب نظره ، وهو يرد عليه: «لو أحدكم لفّ الدنيا اللي لفّيتها، كان بياكل صحونكم كلها»!

لم تكن هذه طُرفة، لكنها قصة حقيقية نتعلم منها أن نعرف وقت النصيحة، وحال الشخص المنصوح، حتى لا تأتي لنا بآثار معاكسة، ونستشف منها حال رمضان في السابق، وتلك التجمعات، في عصر لم يعرفوا فيه الانشغال بأجهزة المحمول وتطبيقاتها، ولا تكثر به منصات الإعلام المرئي العربي منها والأجنبي، ولا توجد به فوانيس علاء الدين السحرية الحالية مثل طلبات وأمثالها، والتي بضغطة زر تنهال على بابك طرقات حاملي الأكياس المليئة بأنواع وكميات من الأطعمة تكفي لرفع مجاعة قرية.

أتكلم عن «حارة الرميلة»، حيث لم يكن هناك قديماً هذا الترف في توصيل الطلبيات، فمطعم أنور لا تعدو قائمته عن البراتا والكيما والصبجي ودجاج الشواية، لكن الموجود كأن به البركة وكفاية، والناس يتجمعون أمام بيوت عدة ليفطروا معاً، وكلٌّ منهم يأتي بما يستطيعه، فالقادر يأتي بأصناف أكثر من الطعام، وغير القادر يكفي أن يأتي بدلة قهوة، فيتقاسم الجميع الطعام في سلوك تكافلي رائع، ولطالما تمت استضافة الغرباء الذين يرونهم يصلون في مساجدهم صلاة المغرب، فيتعلم الصغار الذين يحضرون مع آبائهم هذه السلوكيات والأخلاقيات، ويشبّون على الإيثار والكرم والمبادرة بالخدمة، يسمعون الكبار وهم يقولون قبل تناول أول لقمة: «صِمنا على أمر الله وأفطرنا على ما كَتَّب الله»!

لم تكن الأطباق متنوعة كما نعرفها الساعة، والتي أصبحنا لا نعرف المسميات معها، فهي «عيش شيلاني»، أي أرز أبيض مع اللبن الرائب والسمن أو المرق، أو «عيش مكبوس» أو ثريد، بينما الأطباق الحلوة لا تخرج في الغالب عن ثلاثة أنواع: الفرني «طحين الأرز مع الحليب والزعفران»، والساقو والفقاع «اللقيمات»، والشراب في الغالب «شَرْبَت» أو «تانغ» قبل أن ترى الكبار يُعدّلون المزاج بفنجان قهوة بقناد وزعفران، هذه المجموعة في الغالب تبقى للسمر بعد صلاة التراويح وكأنهم لم يلتقوا منذ سنوات!

صلاة التراويح لها قدسيتها في ذلك الزمن، وقلما تجد أحداً، كبيراً كان أو صغيراً، إلا وهو حاضر، ودوماً يلي الإمام كبار السن، وهم مجموعة أحياناً تملّ من صوت «مطوعهم» طيلة الركعات العشرين، فيحصل على «هزبة» معتبرة لكي يقرأ قصار السور رغم أنه لا يجاوز «تبت يدا» والمعوذات وأمثالها في الطول، ما كان يميّز تلك الصلاة أن أحد «الشيّاب» دوماً بعد السلام من كل ركعتين يرفع صوته قائلاً: «سبحان لي دايم بقاه، صلوا على النبي محمد».

التلفاز بنفسه كان جواً جميلاً لم تلوّثه «نتفلكس» وصويحباتها، ولم تكن الدراما تعرف العائلات الممزقة والخيانة والقتل وإدمان المخدرات، بل كانت فترة ما قبل المغرب يتسمّر فيها الجميع لرؤية وجه بشوش دخل كل قلب وهو الشيخ الجليل علي الطنطاوي، عليه رحمة الله، وبرنامجه الجميل «على مائدة الإفطار»، ثم يتلوه المنشد النقشبندي وابتهالاته اللاتي ما زالت عالقة في الذاكرة، ثم يتلو الإفطار مسلسل «شحفان» أو «إلى أبي وأمي مع التحية» أو «الإبريق المكسور» و«دليلة والزيبق»، أما بعد التراويح ففترة المسلسلات التاريخية مثل «على هامش السيرة» أو «الفتوحات الإسلامية»، ثم يتلوها برنامج محمد سعيد النعيمي «سياحة في الوطن»، وبعده الفوازير، ومسابقات شريف العلمي، وبرنامج حروف وألوف وأمثالها.

لم يكن رمضان مجرد شهر للأكل والتفاخر بتصوير موائد الإفطار وإرهاق سائقي دراجات طلبات وهم يسوقون الأكياس سَوقاً أو البحث عن أسرع مسجد للتراويح، كانت به بركة تشعر بها في أيامه ولياليه، وتتلمّس رحمة الناس ببعض وتعاطفهم فيما بينهم، وتصل لقلبك أُلفتهم خلال أحاديث سَمَرهم، كان لديهم القليل، لكنهم كانوا يلهجون بشكر الله عليه، وهكذا هي الحياة، شكر ودوام عطاء، تعاطف وصِرف مودة، كان رمضان يُعيد تنقية الإنسان من الباطن فيُزهر سلوكه حُسناً وينطق لسانه خيراً.

Email