السياسة الأمريكية الصينية.. مقاربة خارج المألوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادة ما يسجل فلاسفة العلاقات الدولية إعجابهم بالفواعل الدوليين، الذين يوازنون بين قدراتهم وإمكاناتهم ومواردهم ومصادر قوتهم من جهة، وبين مداخلاتهم ومبادراتهم وحراكاتهم ونطاقات نفوذهم وتشبيكاتهم وأنماط تحالفاتهم على الصعد الخارجية من جهة أخرى.

على أن اجتراح معادلة من هذا القبيل، أي نجاح طرف ما في تبوؤ المكانة الدولية الجدير بها، استناداً إلى توظيفه الحصيف لإمكاناته، هو أمر في غاية الحساسية والصعوبة؛ إذ لا تعدم التفاعلات الخارجية في عالمنا الفسيح من وجود أطراف ذات خبرات كبيرة ومقامات رفيعة، ومع ذلك فإنها تقع في خطأ مزدوج:

رفع سقف التوقعات بشأن القدرات الذاتية إلى درجة الوقوع في شباك المبالغة، والفشل في قياس قدرات الآخرين وما يستحقونه من أدوار ومكانات إلى درجة الحط من شأنهم. ويمكن التمثيل لهذه الحالة أو النمذجة لها بما يجري بين يدي السياسة الخارجية الأمريكية، وبخاصة تجاه القطب الصيني.

بيان ذلك أن الولايات المتحدة هي أكثر الفواعل الدوليين عكوفاً على استطلاع ما يدور ويجري في عوالم الآخرين.

وليس بلا دلالة على استشعار التميز والتفرد وعظم الدور والمكانة أن نرى واشنطن قد اتخذت من رؤاها وتقديراتها معايير لا بد أن يراعيها القائمون على هذه العوالم مهما بلغ شأنهم في الميدان الدولي.

هذا أمر يستشف بوضوح عند مطالعة التقارير التي تصدرها بعض المؤسسات الأمريكية بشكل دوري، وتنطوي على أحكام وتقييمات وعلامات جدارة بشأن قضايا يفترض أنها من صميم الشؤون الداخلية للدول «ذات السيادة».

كأن واشنطن تضطلع بما يصح وصفه بدور «المراقب العالمي العام»، انطلاقاً من استشعارها لقوتها الفائضة مقارنة بكيانات الكوكب الأخرى.

ومن المفهوم على نطاق واسع أن التسامح مع هذا الدور يقوم على الاعتراف بحجم المصالح الأمريكية المنتشرة في جهات الدنيا، والمدخلات التي تغذي هذا الحجم اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً وتقنياً وإدارياً...

إلخ، لكن ما يستوجب وقفة تأمل بهذا الخصوص أن القيادة الأمريكية تغتر بشكل صارخ أحياناً بالاعتداد بقوتها، كما تقع في خطأ الاستخفاف بقوة الآخرين. ويتداعى عن هذه المتوالية مشاهد لا عقلانية ووقائع شبه هزلية.

من ذلك بلا حصر قيام وزارة الدفاع الأمريكية أكثر من مرة بإصدار تقارير تحذر فيها من «نقص الشفافية حول التوسع العسكري للصين والطريقة التي يمكن أن يستخدم بها هذا التوسع».

ومن المفارقات أن واحداً من هذه التقارير التحذيرية يعود إلى العام 2008، ذكر أن علة القلق الأمريكي الملتهب وقتذاك تنطلق من إعلان الحكومة الصينية عزمها زيادة إنفاقها العسكري لعام 2008 بنحو الخمس قياساً بالعام الماضي، أي من نحو 41 إلى 59 بليون دولار.

كذلك عرفنا من التقرير سبباً آخر للغضب، هو أن «الجيش الصيني يواصل محاولاته لاختراق أجهزة الكمبيوتر العسكرية في واشنطن وتوسيع أسطوله البحري، والاستثمار في الصواريخ النووية العابرة للقارات وأسلحة تدمير الأقمار الصناعية».

حسناً، الصين واحدة من أقدم دول العالم، وسكانها خمس البشر في هذه المعمورة، ويعادلون خمسة أمثال سكان الولايات المتحدة، ولها أن تخشى على أمنها لسبق تعرضها للغزو ممن هم أحدث منها عهداً بالحضارة من بلاد الشرق والغرب.

ولا يعرف عنها ممارسات استعمارية ولا استخدام القوة العسكرية في فرض الرؤى والتوجهات السياسية وغير السياسية؛ مع ذلك كله ونحوه مما يوجب الاطمئنان فإن الولايات المتحدة تحاول إثارة الفزع من هذه الدولة، وهي إذ تفعل ذلك لا تعبأ بأسس المقارنة والقياس العقلاني بين حالتها هي ذاتها وحال الصين!

مثلاً، لا تلحظ تقارير المسؤولين الأمريكيين ذات الصلة أن موازنة الدفاع عندهم تكاد تساوي عشرة أمثال نظيرتها الصينية، وأن تكلفة بعض حروبهم، كغزو أفغانستان، تقترب من سقف التريليون ونصف التريليون دولار، وهذا يوازي ما تخصصه الصين للدفاع لثلاثين عاماً تقريباً، وأنه لو كانت الموازنات العسكرية تتحدد وفقاً لحجم السكان فقط لكان من حق بكين تخصيص تريليونين ونصف التريليون من الدولارات سنوياً.

كذلك فإن الغضب من محاولات اختراق الصين للمعلومات العسكرية الأمريكية وتطوير قدراتها الصاروخية يبدو مثيراً للاستهجان؛ لأن ذلك يعني أن واشنطن ذات الآذان والعيون المبثوثة براً وبحراً وفضاءً في جهات الكون، التي تسمع وترى وترصد وتحلل على مدار الساعة، تحرّم على غيرها ما تبيحه لنفسها.

نحن إزاء مقاربة لدور الصين ومكانتها المشوبة جدلاً بالعوار والانحراف المنطقي. وظاهر الحال أن بكين على دراية كافية بهذا العيب، ومع ذلك فإنها تسعى للارتقاء للأعلى إقليمياً ودولياً، بخطوات قد تكون هادئة ناعمة، ولكن لا ينقصها الثبات.. يسأل عن ذلك بلا حصر مبادرتها القائمة لوقف الحرب الروسية الأوكرانية ووساطتها الناجحة بين الرياض وطهران.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

 

Email