لن تجد كتاباً أو بحثاً حول تاريخ أو جغرافية منطقة الخليج بضفتيه، ووسط الجزيرة العربية (نجد وما حولها)، صدر في العقود الأخيرة، إلا وتجد ضمن قائمة المراجع كتاب «دليل الخليج»، بقسميه التاريخي والجغرافي للوريمر. فمن هو هذا اللوريمر، الذي لا غنى للباحثين والدارسين عن مؤلفاته؟ وما سر استنادهم الواسع عليها؟لقد كتب الكثيرون من الرحالة والمستكشفين الأوروبيين عن الخليج وشبه الجزيرة العربية، منذ القرن 16، بعد أن جالوا مدنها وصحاريها، ورصدوا عادات شعوبها وتقاليدهم ومظاهر حياتهم، وبغض النظر عن دوافعهم الحقيقية، ورأينا في بلدانهم وما طالهم من اتهامات، فإنهم أسدوا خدمة لا تقدر بثمن للباحثين والمؤرخين والدارسين، من خلال ما تركوه من كتب ودراسات حول المكان والزمان، والبشر والحجر، والمجتمعات والعادات، تباينت هي الأخرى من حيث الحجم والتفاصيل والأسلوب والمضمون. غير أن أياً من هذه الكتب والدراسات، لم يحظ بما حظيت به مؤلفات لوريمر من اهتمام، لأسباب كثيرة، منها أهداف الرجل ذات الصلة بطبيعة وظيفته وصفته الرسمية، واللتين أضفتا طابع المصداقية على عمله وجهوده..

ومن جهة أخرى، راعى الرجل في كتاباته أن تكون مسهبة ومتطرقة إلى تفاصيل التفاصيل، بمعنى أنه لم يترك أي شاردة أو واردة، إلا وتطرق لها، وحفر وراءها، مستنداً إلى معلومات استخباراتية، وعملية تقصي ميدانية وكتابات ومؤلفات الرحالة السابقين، مثل دوتي وبلغريف وبوركهاردت..

ولد جون جوردون لوريمر، الشهير باسم ج.ج. لوريمر، بمدينة غلاسغو في 14 يونيو 1870، لعائلة إسكتلندية محافظة، مكونة من والديه وخمسة أبناء آخرين. وفي عام 1889 تخرّج في جامعة أدنبرة، وعمل لمدة عام، خادماً في كنيسة المسيح بمدينة أكسفورد الإنجليزية، قبل أن يتولى عام 1891، منصب المساعد الأول للمندوب السياسي البريطاني بولاية البنجاب الهندية. وبفضل كفاءته الدبلوماسية، ونبوغه السياسي، تم نقله للعمل بمقاطعة سيملا عند سفوح جبال الهملايا، حيث تولى الشؤون الخارجية لحكومة الهند البريطانية آنذاك، وكان وقتها متزوجاً من ماريان أغنيس، التي اقترن بها عام 1875. وفي عام 1909 بدأ عمله في البلاد العربية، وذلك حينما تولى منصب المندوب السامي للتاج البريطاني لدى الأقاليم العربية الخاضعة للحكم العثماني، ثم تولى منصب القنصل العام البريطاني في بغداد عام 1911. أما وفاته، فقد كانت بمدينة بوشهر الإيرانية، حيث كان يعمل مقيماً سياسياً لبريطانيا في الخليج، على إثر حادث عارض. وقد نشرت جريدة «تايمز أوف إنديا»، الصادرة في بومباي، تفاصيل وفاته آنذاك، فقالت إن لوريمر اختلى بنفسه في غرفة ملابسه صبيحة يوم الأحد 8 فبراير 1914، للتحقق من عيار بندقيته الآلية، فأصابته طلقة منها، اخترقت جسده، واستقرت في معدته بطريق الخطأ. وعثر عليه فيما بعد مسجى على الأرض جثة هامدة، في عمر 43 سنة.

أما جنازته، فقد أقيمت في اليوم التالي بمقابر دائرة التلغراف الهندو أوروبية في بوشهر، وسط مظاهر عامة من التعاطف بين المقيمين البريطانيين والأجانب والسكان المحليين.

انتشرت أخبار رحيل لوريمر، فوصل صداها إلى البحرين في 12 فبراير 1914، عن طريق السفينة البخارية «بارالا»، فسارع الوكيل السياسي البريطاني في المنامة الرائد «آرثر بريسكوت تريفور»، إلى تنكيس الأعلام حداداً، وتدافع تجار البلاد ووجهاؤها وأفراد الجاليات الهندية والفارسية واليهودية، إلى تقديم التعازي، كما شارك في التعزية حاكم البلاد، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، عن طريق إيفاد نجله الشيخ عبدالله.

كلفت حكومة الهند البريطانية في عام 1903، موظفها لوريمر، بمشروع إعداد موسوعة شاملة ومفصلة عن منطقة الخليج العربي، وامتداداتها في شبه الجزيرة العربية والعراق، بهدف توفير دليل سهل، يمكن لموظفي الدولة البريطانية ودبلوماسيها ورجالاتها في المنطقة الرجوع إليه، للحصول على المعلومات التي تساعدهم في تعزيز نفوذهم ونفوذ دولتهم في مواجهة القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى، التي كانت آنذاك في تنافس مع بريطانيا على المنطقة. وقد شمل تكليفه الإشراف على فريق من موظفي الخدمة المدنية الهندية لإعداد الموسوعة المطلوبة، فقام لوريمر بتقسيم الفريق إلى قسمين: قسم مختص بجمع المعلومات التاريخية، وآخر مختص بجمع المعلومات الجغرافية والإحصائية.

اكتمل العمل على القسم الجغرافي والإحصائي عام 1908، بينما لم يكتمل العمل على القسم التاريخي إلا عام 1915، أي بعد رحيل لوريمر بعام تقريباً، حينما قام زميله بيردود بانجاز المتبقي (المقدمة والفهرسة فقط). بعد ذلك تمّ طبع القسمين كموسوعة من كتابين باسم «دليل الخليج الجغرافي»، و«دليل الخليج التاريخي» بمدينة كلكتا عام 1915، وبشكل محدود جداً. ثم تم وضع الموسوعة تحت تصنيف «سري ــ للعمل الرسمي» لاستخدامات الحكومة البريطانية فقط، ولم يعلم أحد بأمرها إلا في عام 1955، واستمرت مصنفة كموسوعة سرية إلى عام 1970، حينما رفعت السرية عنها، فتمت إعادة طباعتها ونشرها مترجمة إلى العربية بعد ذلك مرتين: مرة في قطر، وأخرى في سلطنة عمان. ولعل أكبر دليل على حرص بريطانيا على إخفاء أمر الموسوعة، هو أنها في بيان نعيها للوريمر، تطرقت إلى كل مؤلفات الرجل، عدا مؤلفه الأهم هذا. فقد أشار البيان مثلاً إلى كتابين أصدرها لوريمر من قبل، وهما: «القانون العرفي للقبائل الرئيسة في بيشاور»، الصادر عام 1899، و«المفردات والقواعد اللغوية للغة الباشتو وزيري»، الصادر عام 1902.

كما صدرت ملخصات مترجمة لمختارات من الموسوعة، خاصة بمواضيع معينة، مثل الكتب التالية: «الكويت في دليل الخليج» لخالد سعود الزيد (1982)، و«تاريخ البلاد السعودية في دليل الخليج» لمحمد بن سليمان الخضيري (2001) وغيرها.. إضافة إلى ذلك، نشرت أبحاث ودراسات ومقالات مستمدة من عمل لوريمر الضخم، مثل مقال محمد بن ناصر الجمعان بجريدة الجزيرة السعودية (8/‏‏‏‏‏5/‏‏‏‏‏2017)، عن بلدة الحريق النجدية في دليل الخليج، ونص توثيقي لقرية الظلوف (أحد الأماكن التي استوطنتها قبيلة المنانعة)، في دليل الخليج الجغرافي، ومقال مطول كتبه شخص يرمز إلى اسمه بـ «بوشقرة»، بعنوان «وصف الهولة في كتاب دليل الخليج». ويتكون دليل الخليج من نحو 6000 صفحة، موزعة على ستة مجلدات (مجلدان يحملان عنوان الدليل الجغرافي، وأربعة مجلدات تحمل عنوان الدليل التاريخي). وينقسم الدليل التاريخي بدوره إلى ثلاثة أجزاء: الأول بعنوان «القسم العربي»، ويغطي التاريخ العام للخليج العربي منذ عام 1507، قبل أن يتناول تاريخ كل منطقة أو بلد على حدة، كتاريخ كل من عمان والساحل المتصالح، والبحرين وقطر والأحساء والكويت ونجد والعراق. والجزء الثاني بعنوان «القسم الفارسي»، وهو يغطّي تاريخ السواحل الفارسية، بما في ذلك عربستان ومكران وجوادر في بلوشستان، مع ملاحق حول مواضيع متخصصة.

يعيب البعض على دليل لوريمر الجغرافي، أن معلوماته قد تجاوزها الزمن، نتيجة المتغيرات الكثيرة التي مرت على المنطقة، وهذا صحيح، إذا نظرنا للموضوع من ناحية التطور المادي، لكن المكان كموقع جغرافي بحت يظل كما هو دون تغيير.. كما أن الدليل الجغرافي مهم، لأنه مزود بستٍّ وخمسين صورة فوتوغرافية نادرة من الخليج، التقطها ضبّاط الاستعمار البريطاني، والمستكشف الألماني «هيرمان بورخاردت»، و«راجا دين دايال وأولاده»، (المصورون الرسميون لنائب الملك في الهند)، علاوة على خريطة خاصة بمغاصات اللؤلؤ على الساحل العربي للخليج، وخريطة أخرى سياسية للمنطقة، أعدها رسام الخرائط الملازم «فريزر فريدريك هانتر». ويعيب البعض على دليل لوريمر التاريخي، أنه يستند إلى معلومات وتفسيرات تتسق مع وجهة النظر البريطانية الرسمية البحتة، دون تقديم وجهات نظر أخرى.. وقد قال أحد المؤرخين البريطانيين، عن مهمة لوريمر: ليس كتابة تاريخ الخليج أو تاريخ الدور البريطاني فيه، وإنما وضع إطار عام لكمّ الأحداث الهائلة بالمنطقة، وبناء هيكل يمكن للمعنيين الغوص فيه بحثاً وتنقيباً.