ما بين الزلزال ومعانقة الفضاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

كاد العالم يقف لحظة صامتاً موجهاً أنظاره صوب المنطقة العربية عقب وقوع زلزال سوريا وتركيا المروع، ولسان حاله: يا ترى كيف ستتصرف الدول العربية فيما جرى من خراب ودمار لدى جارتيها، وذلك في ظل صراعات وخلافات بعضها دام سنوات.

لكن لحظات الانتظار والترقب لم تدم طويلاً، خرجت الدول العربية مقدمة يد العون الإنساني الحقيقي اللحظي أملاً في إنقاذ ما ومن يمكن إنقاذه، فالدقيقة، بل الثانية قادرة على صناعة الفرق بين الموت والحياة.

الحياة في المنطقة العربية ليست سهلة. السياسة وخلافاتها، والاقتصاد وتأرجحاته، والصراعات والاقتتالات التي كُتبت (أو كتبها آخرون) على تاريخ البعض وحاضره، والاحتقانات الطائفية والدينية التي عرقلت مسيرة المنطقة كثيراً جعلت منها منطقة ملتهبة سريعة الاشتعال، لكن المصائب الكبرى، لا سيما الطبيعية، تكشف عن معادن أصيلة ليست غريبة على المنطقة.

الغريب على المنطقة هو تجاهل وضع إنساني كارثي، أو زج بالسياسة في خيوط معاناة إنسانية رهيبة. متابعة ما يجري في سوريا وتركيا منذ وقوع الزلزال وتبعاته بدءاً من يوم 6 فبراير الماضي أشبه بالحلم. ورغم أن الحدث كارثي، لكن تبقى الروعة الإنسانية درساً مستفاداً وعبرة مكتسبة ودرساً للحاضر والمستقبل.

مر نحو شهر على الكارثة، لكن الغوث العربي الإنساني مستمر. وعلى الرغم من المساعدات الدولية المختلفة من منظمات أممية وأطقم إغاثة وغيرها، إلا أن خطاً مفتوحاً بين عدد من الدول العربية وكل من سوريا وتركيا يضخ الغوث دون توقف للتفكير في المصالح التي يمكن جنيها، أو الخلافات، لا سيما في أعقاب أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي».

لكن لا «الربيع العربي» أو خريفه أو حتى شتاؤه وقف عقبة أمام «الفارس الشهم 2» مثلاً، تلك العملية التي وصل عدد رحلاتها الإغاثية من الإمارات إلى سوريا وحدها نحو 134 طائرة تحمل آلاف الأطنان من المواد الطبية والغذائية، ويضاف إلى ذلك عشرات سيارات الإسعاف ومساعدات مالية ضخمة للمتضررين في كل من تركيا وسوريا.

وكعادته، وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بتسيير المساعدات الإنسانية العاجلة لـ«الأشقاء». وتأكيد سموه أن دولة الإمارات حاضرة لإغاثة الشقيق والصديق هو تأكيد على المكون الإنساني العميق في كل كبيرة وصغيرة في الفكر والفعل.

زيارة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، المناطق المتضررة من جراء الزلزال المدمر الواقعة شمال غربي سوريا، وكذلك المناطق المتضررة في كهرمان مرعش في تركيا، وتقديم المواساة والدعم النفسي قبل المادي تقول الكثير أيضاً.

وقبل أيام، وصلت الطفلة السورية «شام» وشقيقها لتلقي العلاج في أبوظبي. هذا إضافة إلى خطوط الإمدادات المفتوحة إلى تركيا، التي وصفتها وسائل الإعلام التركية نفسها بـ«براً وجواً وبحراً.. أسابيع من الدعم العربي لتركيا».

هذا العنوان وحده كفيل بتحريك كل ما يمكن تحريكه من مياه سياسية راكدة في المنطقة. وحين تنتفض مصر حكومة وشعباً وتبادر بإرسال مئات الأطنان من المساعدات الطبية والغذائية للبلدين المتضررين، وحين يزور وزير الخارجية المصري سامح شكري كلاً من تركيا وسوريا لتكون أول زيارة لمسؤول مصري كبير لسوريا منذ اندلاع ما يسمى «الربيع العربي» في سوريا في عام 2011، فهذا يعني الكثير.

الكثير أيضاً تقوله المساعدات التي جاءت من دول عربية عدة. وعلى الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة في العديد من دول العالم، وبالطبع الدول العربية، لا سيما الأكثر تضرراً، فإن وقت الشدة لا صوت يعلو على غوث المتضرر والمتألم. والصورة مذهلة بروعتها على الرغم من قساوة وفداحة تفاصيلها.

والقول بأنه من رحم الشدائد تولد الانفراجات والفرص والبدايات الجديدة.. رحم الله من قضوا في هذه الكارثة المروعة، وألهم ذويهم الصبر والقدرة على المضي قدماً في إعادة بناء حياتهم، وألهمنا كذلك القدرة على اقتناص الفرصة لإصلاح أوضاع المنطقة برمتها.

المؤكد أن المنطقة مقبلة على أوضاع جديدة. وقدرتنا على توجيه وتطويع هذه الأوضاع لصالح الجميع، بدلاً من تدخل آخرين في التوجيه أو ترك الساحة لقوى الشر والأهداف الخبيثة لتدلو بدلوها مجدداً وتقرر مصير المنطقة، ليست فقط سانحة، ولكن راسخة، وكشف عنها رد الفعل العربي تجاه الزلزال المروع.

وفي سياق يبدو مختلفاً، لكنه في الحقيقة وثيق الصلة بوضع المنطقة الجديد، فإن معانقة الإمارات للفضاء عبر مهمة رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي ليست معانقة إماراتية مع الفضاء فحسب، بل هي معانقة عربية مع العلم والمستقبل والمصالحة تصب في صميم الملامح الجديدة للمنطقة.

*كاتبة صحافية مصرية

 

 

Email