يرى أصحاب النظرية الواقعية للسياسة الدولية، أن النظام العالمي يقوم على الهيمنة، أي أن تكون هناك دولة تتمتع بقوة كبيرة، تهيمن على النظام، وتسيّره وتضبط إيقاعه، أو أن النظام العالمي يقوم على توازن القوة بين الدول العظمى. توازن القوى هو الوضع القائم في أوروبا بعد الحروب النابوليونية، إلى بداية القرن العشرين، وشهد نهايته في الحرب العظمي. النظام العالمي القائم على الهيمنة، هو النظام الذي أقامته الولايات المتحدة بعيد الحرب العالمية الثانية. وقد نجحت واشنطن في تشييد نظام عالمي مبني على مؤَسسات دولية صلبة، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وإلى ما هنالك من مؤسسات دولية حازت على رعاية الولايات المتحدة، وجيرت هذه المؤسسات لخدمة الهيمنة الأمريكية.
ولكن مع بناء النظام العالمي، برزت الأسلحة النووية كعامل مهم في العلاقات الدولية. وتأثير هذه الأسلحة كان واضحاً وجلياً، حين استُهدفت اليابان في ختام الحرب العالمية الثانية بالأسلحة ذاتها. وسُرعان ما لحق السُّوفييت بالأمريكان في إنتاج قنابل نووية في 1949. ولكن القوة النووية السوفييتية حينها، كانت ضعيفة بالنسبة للغرب.
يقول خبير في الأمن الدولي، كان الاتحاد السُّوفييتي في الخمسينيات من القرن المنصرم، يمتلك 300 رأس نووي، مقابل 3000 رأس نووي تمتلكها الولايات المتحدة وحُلفاؤها. والأهم أن وسائل الإيصال لهذه الأسلحة مُنعدمة لدى موسكو. ولكن الولايات المتحدة كان لديها وسيلة لإيصال هذه الأسلحة لأهدافها في الأراضي السُّوفييتية، عبر قاذفات قنابل متأهبة في القواعد الأوروبية والأمريكية. لم يكن لدى الطرفين صواريخ بالستية لإيصال أسلحتهم الذرية إلى أهدافها في أرض الخصم بعد. وبسبب القصور السُّوفييتي في مجال التسلح النووي، كانت استراتيجية موسكو تطوير قوتها التقليدية، لوضع أوروبا الغربية رهينة للآلة العسكرية السُّوفييتية، وردع واشنطن من استخدام أسلحة تقليدية أو نووية ضدها.
وسعى السُّوفييت إلى تطوير صواريخ قاذفات بعيدة المدى، تستطيع أن تصل إلى الولايات المتحدة. وقد شكل هذا التطور مُرتكزاً للردع السوفييتي لأي هجوم من قبل الولايات المتحدة. المُشكلة أن هذه الصواريخ كانت مُنكشفة لهجوم العدو. وقد كان بإمكانية سحق هذه الصواريخ على قواعد انطلاقها، دون وجود موانع صلدة لحمايتها. وكان لزاماً تطوير حماية لهذه الصواريخ، لمنع الطرف المقابل من التفكير في الهجوم. بل الأهم من ذلك، على الطرف الآخر أن يدرك المخاطر الحيوية لاستخدام هذه الأسلحة.
والنتيجة لهذه التطورات المتلاحقة في مجال الأسلحة النووية، أصبح النظام الدولي يعيش على شفير الهاوية النووية. فالتغير في ميزان القوى، بما فيها عدد الصواريخ التي يمتلكها كلا الطرفين، لهما مدلولات بالغة الأهمية للأمن العالمي. وحين كان التفوق الصاروخي لصالح الولايات المتحدة في الستينيات من القرن الماضي، طفق الاتحاد السُّوفييتي في تحسين مستوى صواريخه العابرة للقارات. ولعلّ نشر صواريخ سوفييتية في كوبا في 1962، كان جزءاً من سد الفجوة الصاروخية بين الطرفين. وما أَشبه الليلة بالبارحة، فالرئيس فلاديمير بوتن، يعترض على وجود قوات الناتو على حدود بلاده في أوكرانيا. هذه المواجهة، كادت أن تؤدي إلى اشتعال الحرب النووية بين القطبين الرئيسين. وقد كان القادة العسكريون يدفعون الرئيس جون كنيدي، لأن يتخذ عملاً عسكرياً، دون إعطاء الدبلوماسية فرصة لإنجاح حل سلمي.
واليوم، تقف القوتان النوويتان في مواجهة، ولكن الثمن المرتفع للتراشق النووي، حتى التكتيكي، يعتبر تجاوز عتبة عالية، لا يريد أحد أن يتسلقها.
ويبدو أن موقف موسكو اليوم، يتمثل ببيت الشعر العربي، لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب.
* كاتب وأكاديمي