المقطورة الأخيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

خمس ساعات تفصلني عن السواحل الزرقاء، المطلة على البحر الأبيض المتوسط.. تمتد على طول الخلجان والجزر ولها شواطئ ذهبية. تشكيلة من الألوان الرائعة مما يبحر بك بعيداً في عالم يشعرك بأنه افتراضي.

امتطيت ذاك القطار الليلي الذي يأخذني من باريس إلى الريفييرا الفرنسية، كان هناك عدد من الرحلات، ولكنني فضّلت، بعد مجادلة، أن أجد رحلة تأخذني الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل، حيث كان يجدر بي الوصول عند الساعة الرابعة والنصف فجراً. ولا أخفيكم سراً بأنني أعشق الرحلات الليلية، فمن خلالها أحتضن أوراقي، وتأخذني أناملي إلى عالم إما أنني عشته من قبل واشتقت إليه، أو أنني تمنيت، خيالاً، أن يصبح واقعاً ذات يوم.

ساقتني قدماي إلى آخر عربة في سلسلة المركبات المتصلة، وبالتحديد المقطورة الأخيرة المقابلة لحشرجة عجلات القطار وأصوات الاهتزاز بين الصحو والنعاس، كلما بلغت حدة الألم ازدادت شدته. أنتظر عندما يبدأ القطار في تخفيف سرعته بين المحطات ويتوقف، وخصوصاً في آخر الليل، وتحديداً عند السحر الأعلى، أي ما قبل انصداع الفجر، عندما تتلون السماء فأفتح نوافذ كابينة القطار على مصراعيها. أتنفس الصعداء وأخرج من بين تلك الحنايا بئراً أعمق، وكأن الهموم في صدري باتت تتنحى الواحد تلو الآخر. يسلبني ويفتنني عندما يطوق عنقي ذاك النسيم، إذ يغمرني بشعور لا أدركه ولا أحس به إلا هنا.

هكذا كانت رسالة «ماريا» إلي، شريكتي في الكابينة ذاتها، التي كانت تبلغ من العمر 80 عاماً، حيث قالت: في مثل هذا اليوم من كل عام عندما أتألم وأضجر أهرع إلى هنا، فهذه الليلة القمرية التي تحمل في طياتها ذكرى لا تنسى أحييها في كل عام، لم يشاركني أحد هذا المخدع سوى إصرارك على مرافقتي، ولا علم لي بما وراء هذا الإصرار.

اعتذرت عن ذلك الإصرار، لم أشأ أن أعكر صفوها، ولكن انتابني الفضول عندما سمعت موظفة التذاكر وهي تقول هناك تذكرة واحدة في كابينة تتشاركين فيها مع سيدة لها طقوس غريبة، ولن تسمح لك بمشاركتها. 

لم أجدها طقوساً غريبة كما وصفتها الموظفة، وجدتها مجموعة من المشاعر والأحاسيس الدفينة، قد أكون اقتحمت حياتها وروحها الراقية وإنسانيتها اللامحدودة بمشاركتي لها. 

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: من منا بإمكانه احترام مشاعر لم تعد موجودة؟ وماذا يمكننا أن نصف هذا؟

Email