الدعاية البيضاء للأسوأ

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقولون إن الكثير من المآسي والأخطاء الفادحة التي وقعت بالفعل، حدثت على أيدي أشخاص حسني النية، تسببوا بأضرار كارثية للآخرين، وربما لأنفسهم، من دون قصد.

ينسحب هذا الأمر على جانب كبير من الهجوم المسبق، على أي عمل درامي قبل أو في بدايات عرضه، ولا سيما حينما يتضمن هذا الهجوم دعوات إلى منع بثه أو سحبه، والتلويح بتحريض رقيب، لم يعد بمقدوره فعلياً ممارسة سلطاته التاريخية في عصر المحطات المفتوحة ومنصات المشاهدة المدفوعة.

التحريض والتحفيز الحقيقي هنا يطال المشاهدين والمتابعين الذين يصبحون شغوفين بمتابعة هذا المحتوى الذي أضيفت إليه «بهارات» الممنوع، وأثار فضول بعضهم إلى هذا الحد، وقد لا يفيق جميع الأطراف، باستثناء الجهة المنتجة، إلا في نهاية المشهد، الذي يكشف دائماً أن الأمر برمته قد تم تضخيمه، وتحميله ما لا يحتمل، وأنه لم يكن يستحق كل هذه الضجة، سواء بسبب ضعفه فنياً، أو تكراره أفكاراً سابقةً، أو خلاف ذلك من أسباب لم تكن لتضمن له أن يكون اهتمام متابعيه، لو لم تثر في شأنه كل هذا الضجة.

نعم، يقع الكثير من الكُتاب وأصحاب الأقلام في فخ الدعاية للأسوأ، تحت مظلة غالباً ما تكون بيضاء مناصرة للمجتمع ومصلحته ومنظومة قيمه السائدة، وللذوق العام، والمعايير ذات الصلة بالأصول المهنية، ولكن كل هذه المناصرة تتحول إلى دعاية مجانية لذات ما يقومون بانتقاده ورفضه، فتكون النتيجة مزيداً من الانتشار والمكاسب، تفرّخ مزيداً من الأعمال المشابهة، بعد نجاح التجربة وفق مقاييس من راهنوا عليها.

من يقوم بصناعة مسلسل رمضاني مثير للجدل، وتتضمن فكرته بشكل يقيني تحفظات فكرية أو تاريخية، أو حتى عقائدية، واجتماعية، ومن ينتج فيلماً سينمائياً مسيئاً لفئة أو شريحة من المجتمع، ويزجه في دور السينما في مواسمها الأهم قبل الأعياد، ومن يُضمّن روايته أو ديوانه أو معرضه، المستنكر في سياقه الاجتماعي، ويجتهد لإيصاله إلى أهم المناسبات الثقافية والفنية، غالباً ما يأمل أن تتلقفه قراءات الحريصين على تقديم خدمات الدعاية المجانية، فتنقله إلى مستويات أعلى من الانتشار، ربما تكون فارقة في مسيرتهم، وفي أرباحهم أيضاً.

معظم الأعمال التي تم تسليط الضوء عليها في هذا السياق اكتسبت بالفعل وهجاً مضاعفاً، وكثير منها ما كان ليتم التوقف عنده بالأساس، لولا تلك الإثارة التي صادفت طرحه، بل إن الجلبة المثارة في شأنه غطت على الأولى بالمتابعة والقراءة والنقد المتخصص، وهي حكاية تعاد روايتها، وفي كل مرة نتأكد من أن هذا النوع من الأعمال لم يكن ليحظى بالمشاهدة أو الاهتمام، لولا الضجة التي أثارها أصحاب النوايا الطيبة.

في المقابل سنجد أن منتجي هذه الأعمال يكتفون دائماً بمراقبة المشهد، مع إشعاله من جديد كلما خبت، بتسريب صورة، تصريح غير مؤكد، يتم نفيه أو إثباته لاحقاً، أو سوى ذلك، لا يهم، وفي عصر «سوشيال ميديا»، و«الأقلام الصديقة»، باتت هذه المهمة أكثر سهولة عن أي وقت مضى، وإن كنا هنا نقتصر الحديث على من نعدّ انتفاضتهم ضد الأسوأ في إطار «النوايا الطيبة».

هذا التناول لا يعني المحايدة أو السلبية، أو غياب النقد الواعي الأمين، لما يتم تقديمه، ولكنه دعوة للتعامل الواعي مع آليات غير مباشرة باتت مكررة وممنهجة، ومع ذلك لا تزال فخاً صالحاً لإيقاع ضحاياه.

Email