كلما اقتربنا من التسليم بأن عصر الإعلام المهني الذي يتبع القواعد ويحترم الأسس، ويعمل في إطار مواثيق قد انتهى، يقع حدث جلل يعيد للإعلام مكانته، ويدلل على رفعته، ويؤكد على استمراريته.

استمرار التطبيقات والمنصات الإلكترونية والتحول إلى الرقمنة، لا ولم ولن يكتب كلمة «النهاية» أمام الإعلام التقليدي. وفي كل مرة ينجرف فيها العالم للاعتقاد بأن عصر الخبر المؤكد والمعلومة الموثقة والتحليل الرزين، والمقال المعتبر والتقرير المعلوماتي، والصورة بألف كلمة، قد انهزم أمام مليارات «الأخبار» والصور والفيديوهات التي تتزاحم على أبواب صفحاتنا العنكبوتية على مدار الثانية، تشاء الأقدار أن تردنا رداً جميلاً إلى منصة العقل والمنطق.

العقل والمنطق يقولان إن الآلة مهما بلغت من ذكاء ودقة وحنكة وتطور، لا يمكنها أن تحل محل العقل البشري. ربما تقوم بمهام روتينية أو متكررة، كان يقوم بها مثل إدخال المعلومات أو تحليل البيانات. وربما تقوم بمهام تصورنا يوماً أنها حكر على الإنسان، وذلك في عوالم الطب والهندسة والتعليم والمال والأعمال، وحتى في ساحات الحروب والصراعات. وحتى سنوات، وربما أشهر قريبة مضت، كان العالم على يقين بأن الذكاء الاصطناعي، رغم قدرته على الخروج بكلمات وترجمات وعبارات مفهومة، وتتمتع بكفاءة عالية، إلا أنه يقف عاجزاً أمام صياغة جمل مفهومة وفقرات مترابطة، تحاكي ما يقدمه العقل البشري عبر الكتابة.

لم يقف الذكاء الاصطناعي مكتوف الأيدي أو عاجزاً عن ذلك لفترة طويلة، بل باغتنا ببضع أمثلة «مبشرة» على قدرته على صياغة الجمل المفهومة والفقرات المترابطة. ثم جاء «تشات جي بي تي»، الذي ما زال يحافظ على إدهاشه للعالم، لفرط دقته ومهارة صياغته، لدرجة أن الجميع بدأ يدخل في دوائر «هل يفقدني تشات جي بي تي وظيفتي؟»، و«هل يسيطر تشات جي بي تي على العالم رغماً عن البشرية؟»، وجميعها دوائر مفرغة خاضتها البشرية في كل مرة خرج فيها مهندسو وتقنيو الذكاء الاصطناعي بتقنية أو مبتكر أو منصة جديدة.

هذه المرة الفزع كبير، وهذا طبيعي ومنطقي. فالتقنية الجديدة تعرف نحو 175 «قطعة» معلومات، ولديها القدرة على استرجاع واستدعاء أي منها في ثوانٍ معدودة. من جهة أخرى، تطرح التقنية هذه المرة خطراً مضاعفاً على صعيد الهجمات التكنولوجية، وتطرح شكوكاً حول القدرة على صد هذه الهجمات التي تمثل خطراً كبيراً للمعلومات الشخصية والأمنية وغيرها. فهي تعتمد على تقنية «اللغة الطبيعية»، أي لديها القدرة على توليد لغة تحاكي اللغة التي يستخدمها البشر، ولا تثير حولها شكوكاً كونها «روبوت». وعلى الرغم من أنها مزودة بتقنيات حماية «نظرياً»، إلا أن العبرة تبقى بالاستخدام الفعلي.

نظرياً، كل شيء ممكن. لكن فعلياً، يبقى الإنسان والعقل البشري الأصل. والأصل في الأشياء يحتاج إلى قدر من التعقل. سلسلة الأحداث والحوادث الخطيرة التي وقعت في الأشهر القليلة الماضية، من وباء وحرب في أوكرانيا، وخطر يهدد أمن العالم الغذائي إلى صراع مناطيد وحرب رقائق، وزلزال مدمر وحفنة فيضانات وجفاف، تعكس غضب الطبيعة القاتل وغيرها، تخبرنا أن الإعلام «التقليدي» كان المصدر الرئيس للمعلومات الموثوقة في مثل تلك الأوقات العصيبة، حتى لو كان عبر منصاته الجديدة على «تويتر» و«إنستغرام» و«فيسبوك» وغيرها.

هذا التأكيد على محورية دور الإعلام التقليدي عبر المنصات التقليدية والجديدة، على حد سواء، يطرح نفسه سبباً رئيساً للتفكر والتعقل من قبل القائمين على أمر الذكاء الاصطناعي، وشركات التطبيقات والتقنيات والمنصات الإلكترونية وغيرها. فتح مجالات الابتكار والإبداع والاختراع على مصاريعها أمام كل ما هو جديد، أمر حتمي وضروري، ومقاومة هذا الفتح أو محاولة الإغلاق لن تجدي. لكن المجدي هو استشراف المخاطر والتنبؤ بالأضرار، ووضعها في ميزان أمام المنافع والفوائد، وكذلك «يوفوريا» الابتكار والإبداع.

الإبداع الحقيقي يكمن في قدرة العقل البشري، ليس فقط على اختراع العجائب وتحدي الأهوال، ولكن في القدرة على إحداث التوازن والحفاظ على معادلة البشرية صحيحة وصحية. أصوات عديدة بدأت تظهر هنا وهناك، تتساءل عن «حدود» الذكاء الاصطناعي، وإن كان يجب على العقل البشري أن يضع قيوداً له، أم يترك دون قيد أو حد، وهل المضي قدماً في طريق تمكين الرقمنة الخارقة قرار جيد بالضرورة؟ المثير أن أغلب هذه الأسئلة ونقاشاتها، تطرح في دوائر قائمين على أمر الذكاء الاصطناعي. ليسوا قائمين عليه مادياً، أو من حيث الملكية بالضرورة، لكنهم قائمون عليه باعتبارهم العقول المبتكرة والمبدعة والمنفذة.

وإذا كان الإعلام التقليدي يؤكد بين وقت وآخر، أن الغلبة للأصول والقواعد، ولو برداء بالغ الحداثة والتطور، فحري بالعالم وضع هذا النموذج في القلب من نقاشات مستقبل وحدود وقواعد الذكاء الاصطناعي.