شخصيات تحت المجهر

عبدالحسين علي ميرزا.. مسيرة عطاء بين النفط والكهرباء والماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

سجلت البحرين اسمها في صفحات التاريخ كأول بلد في منطقة الخليج العربي يـُكتشف فيها النفط، وذلك سنة 1932 بالتزامن مع انهيار أسواق اللؤلؤ.

ففي 2 يونيو 1932 تم بمنطقة «جبل دخان» اكتشاف أول بئر ينتج النفط بكميات تجارية في البحرين وعموم دول الخليج العربية، فكان ذلك إيذاناً بدخول الشركات النفطية الأوروبية والأمريكية في سباق محموم للتنقيب عن النفط في بقية دول المنطقة.

نتحدث عن هذا الحدث، الذي غير وجه المنطقة بأسرها، ولا سيما بعد اكتشاف النفط في الكويت والسعودية وقطر على التوالي، لارتباط اسم من سنتناول سيرته بصناعة النفط في البحرين. فهو أحد رجالاتها ممن صعدوا سلالمها الوظيفية باقتدار عبر مسيرة عصامية فذة تخللتها الصعاب والتحديات التي لم تحبطه قط أو تهز عزيمته.

حديثنا هو عن الدكتور عبدالحسين ميرزا، الشخصية الطيبة البشوشة المتواضعة الخلوقة، والتكنوقراطي الذي يمتلك خبرة تمتد لأكثر من نصف قرن في قطاعات النفط والغاز والماء والكهرباء والطاقة المستدامة، راكمها من خلال توليه العديد من المناصب القيادية العليا. ونستند في حديثنا عنه إلى مؤلف ضخم أصدره سنة 2022 تحت عنوان «مسيرتي»، يحكي فيه بالتفصيل عن تجربته الغزيرة في الحياة والدراسة والعمل.

ولد «عبدالحسين علي ميرزا حسين علي» في 2 أغسطس 1944 بفريج المشبر، أحد فرجان المنامة الكبيرة. وكان ميلاده في بيت والده القريب من مقر الشرطة والأمن المعروف بـ «القلعة».

جده هو رجل الدين «حسين علي» الذي تزوج سيدة تنتسب إلى آل البيت تدعى معصومة. أما والده فهو الشرطي علي ميرزا (1905 ــ 1985) الذي اقترن بمريم علي شاكر وأنجبا 12 من البنين والبنات، كان ترتيبه بينهم هو الثالث.

يقول الوزير ميرزا إن والده، الذي ترقى وظيفياً في سلك الأمن حتى صار ضابطاً برتبة عميد، ومرافقاً أقدم لحاكم البحرين حينذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، رحمه الله، اختار له اسم خالد، ولكن صادفت ولادته ذكرى ميلاد الإمام الحسين رضي الله، عنه فاقترحت جدته لأمه اسم «عبدالحسين» بديلاً. كما أخبرنا أن والده كان حريصاً على إدخال البهجة على أبنائه فكان يأخذهم إلى «سينما القصيبي»، وإلى «فندق البحرين» لتناول العشاء، ويشاركهم مشاهدة برامج تلفزيون أرامكو من الظهران.

نشأ صاحبنا وترعرع وسط أسرته المتوسطة الحال، وفي بيت طغى عليه التسامح الديني والمذهبي والانضباط الشديد المستمد من عمل والده في الشرطة.

وحينما جاء وقت التحاقه بالتعليم، أرسل إلى المدرسة الغربية الابتدائية، التي كان يذهب إليها مع إخوته الذكور مشياً على الأقدام لقربها من منزلهم، حيث أمضى ست سنوات من التعليم على يد مدرسين صارمين، كان خلالها متفوقاً في دروسه، مواظباً على الحضور، ومحبوباً من قبل زملائه، ولا سيما المتعثرين منهم لأنه كان يساعدهم في تجاوز عثراتهم الدراسية.

في عام 1955 تخرج في الابتدائية، فقرر أن يلتحق بثانوية المنامة التجارية بمنطقة القضيبية التي انتقلت إليها عائلته للسكن.

وفي هذه المدرسة، التي زامل فيها بعضاً ممن تسنموا لاحقاً مناصب رفيعة في الدولة بدأ الرجل رحلة دراسية مختلفة درس خلالها مواد متعلقة بالتخصص التجاري من تلك التي تفوق فيها وأجادها، لكن شغفه الأكبر كان باللغة الإنجليزية التي فتحت أمامه آفاقاً جديدة، خصوصاً مع تشجيع مدرسه البريطاني له وتردده على مكتبة المجلس الثقافي البريطاني لاستعارة الكتب والروايات الإنجليزية، ما جعله في تلك السن المبكرة ملماً بأسرار هذه اللغة العالمية قراءة وكتابة ومخاطبة كما العربية.

إلى جانب الإنجليزية استهوته مادة الرسم وما ينطوي عليه من دقة وتخيل وإبداع، وهو ما ساعده لاحقاً على أن يكون مبدعاً ودقيقاً في كل عمل يوكل إليه.

تخرج في الثانوية التجارية عام 1959، وكان ترتيبه الأول على 32 طالباً، بسبب اجتهاده وتركيزه على الدراسة والقراءة والاطلاع دون إضاعة وقته في اللهو. ولعل من آيات شعوره بالمسؤولية وإصراره على التميز والتفوق أنه خلال سنوات التحاقه بالمسار التجاري في المرحلة الثانوية، كان بالتزامن ملتحقاً بالمسار الأدبي في الفترة المسائية، فتخرج وهو يحمل ما يسمى اليوم في الجامعات بـ «التخصص المزدوج».

غير أن ما لم يحسب الرجل حسابه، هو أن الحكومة لم تكن تخصص منحاً للدراسة الجامعية لخريجي الثانوية التجارية، فيما كان هو طامحاً لإكمال تعليمه الجامعي في الخارج، خصوصاً في ظل عدم وجود جامعات في البحرين في ذلك الوقت.

وهنا لجأ ميرزا إلى والده طالباً المساعدة، لكن الأخير طلب منه أن يدخل سوق العمل لفترة يتمكن خلالها من توفير المال واكتساب بعض خبرات الحياة قبل أن يرحل إلى الخارج للدراسة.

وهكذا التحق في عام 1960 بوظيفة كاتب في المحكمة الصغرى الثالثة مسؤولاً عن إعداد محاضر الجلسات وجداولها، وهي وظيفة قال عنها في كتابه إنها أشعرته بأهميته رغم صغر سنه، وعلمته فضيلة تقديم العون للمحتاج، وعرفته على مشاكل الناس وقضاياهم وحوادثهم.

طوال فترة عمله في المحكمة، لم ينس حلم الدراسة الجامعية فكان يراسل مختلف الجامعات أملاً في الحصول على منحة ما، إلى أن أثمرت مراسلاته عن حصوله على منحة من جامعة البنجاب الباكستانية لدراسة الافتصاد.

كانت فرحته عظيمة، ودون أن يفكر قبل المنحة خصوصاً مع عدم وجود خيار آخر، ناهيك عن رخص تكاليف المعيشة في بلد كباكستان، وبالتالي عدم تحميل أسرته أعباء فوق طاقتها. وبالفعل سافر إلى باكستان سنة 1961، وعاش هناك دارساً لمدة عام عانى خلالها من صعوبات الغربة.

وفي عام 1962 عاد إلى البحرين ليقضي إجازته الصيفية بين أهله، لكنه قرر أن يستغلها في أي عمل كي يوفر مالاً يساعده على تدبير أموره المعيشية في سنته الجامعية الثانية. وقتها كانت شركة بابكو هي ملجأ الباحثين عن العمل الصيفي المؤقت واكتساب المهارات والتدريب، خصوصاً أولئك المتمكنين من الإنجليزية.

وتشاء الأقدار أن يلفت ميرزا، خلال عمله الصيفي في بابكو، أنظار مدير مدرسة التدريب «فيفيان مكنايت»، الذي علم بحصوله على شهادة GCE المؤهلة للالتحاق بالجامعات البريطانية، وحصوله على المركز الأول في صفه بجامعة البنجاب، وفي الثانوية التجارية، فاقترح عليه الالتحاق ببابكو مع وعد بابتعاثه إلى بريطانيا للدراسة، وهو ما رد عليه ميرزا بالموافقة الفورية.

وهكذا بدأ عمله مع بابكو بوظيفة متدرب في قسم كان يعد وقتها بمثابة بنك الشركة هو «قسم الخزينة»، فبدا سعيداً وفخوراً لكونه صار مؤتمناً على خزينة شركة من أكبر شركات البحرين وأكثرها ضخاً للأموال في مفاصل الدولة.

ومن الخزينة انتقل للعمل مشرفاً على قسم الحسابات في المرفأ البحري للشركة في سترة، ثم تم نقله إلى قسم التدقيق وجرد الأصول الذي كان من مهامه فيها تسلق خزانات النفط الخام وغير ذلك من المهام الشاقة التي ساعدته في صقل مهاراته وعلمته الصبر والتعود على الأعمال الجادة المهيئة لتولي المناصب القيادية لاحقاً.

وأثناء هذه الفترة عمل جاهداً على إنهاء كل مقررات بابكو الدراسية والتدريبية الصعبة، فحالفه النجاح وتمكن من اجتياز كل المعوقات ليتم ابتعاثه إلى بريطانيا في عام 1965 مع نفر من زملائه، وقد صار أكثر نضجاً وأقوى مراساً وأوسع تجربة.

ولأن السفر إلى بريطانيا وأوروبا آنذاك كان مقتصراً على شريحة معينة من المقتدرين، ولأن وسائل الاتصال والإعلام لم تكن كما اليوم، فقد بدأ ميرزا ورفاقه رحلتهم في بريطانيا بتلقي دروس رتبتها لهم بابكو في الإتيكيت وثقافة المعيشة حماية لهم مما يسمى بالصدمة الحضارية، وكي يكونوا خير سفراء للبحرين وللشركة المبتعثة.

وخلال السنوات الخمس التي قضاها في لندن كطالب مبتعث تنقل في السكن بين أكثر من فندق وشقة ومنطقة وكان يتلقى مع زملائه دعماً ورعاية من المسؤولين في مكاتب شركة كالتكس النفطية بلندن، ما جعلهم يركزون جل اهتمامهم على الهدف الذي جاؤوا من أجله وهو الحصول على شهادة المحاسبة الإدارية، لكن ذلك لم يمنعهم من اكتساب خبرات ومعارف أخرى من خلال حضور جلسات مجلس العموم ودراسة مادة الدستور البريطاني والسياحة في الدول القريبة مثل ألمانيا وفرنسا والدانمارك، ناهيك عن الاستمتاع بمباهج لندن التراثية والموسيقية والمسرحية.

عاد إلى البحرين سنة 1971 ليلتحق مجدداً بشركة بابكو ويتنقل في دوائرها، ولا سيما تلك المتعلقة بالحسابات والمشتريات والرواتب والاستثمارات، فاكتسب من ذلك فائدة عملية عظيمة تكاملت مع ما تعلمه نظرياً في بريطانيا. وتصادفت عودته إلى بلاده مع حصول البحرين على سيادتها الكاملة، وهو ما أغرى بعض زملائه بترك العمل في بابكو من أجل العمل في الوزارات الحكومية الناشئة طمعاً في مناصب رسمية أقل جهداً.

يقول ميرزا، الذي كان يتقاضى وقتها راتباً شهرياً مقداره 150 ديناراً، إنه هو الآخر تلقى عروضاً سخية للعمل في المصارف والجمارك وغيرها، لكنه لم يلق لها بالاً، وفضل أن يبقى في بابكو من باب الولاء لها كونها دربته وعلمته وابتعثته.

والحقيقة أن بابكو ردت له الجميل فأرسلته في دورات تدريبية ودراسية متقدمة إلى نيويورك وجامعة هاواي الأمريكية، ومنحته ترقيات وظيفية متتالية إلى أن صار مع منتصف السبعينات مساعداً للمدير العام للشؤون المالية والقانونية وهو في الثانية والثلاثين.

تولى صاحبنا بعد ذلك العديد من المناصب القيادية، فمن مدير عام الشؤون المالية والإدارية لبابكو إلى نائب رئيسها التنفيذي فإلى رئيسها التنفيذي، وصولاً إلى تعيينه عضواً بمجلس الشورى عام 2000، فرئيساً لمجلس المناقصات في 2003، فوزير دولة لشؤون مجلس الوزراء في 2005، فوزير دولة لشؤون النفط والغاز ورئيساً للهيئة الوطنية للنفط والغاز، فوزيراً لشؤون النفط والغاز في 2006، فوزيراً للطاقة مسؤولاً عن النفط والغاز والكهرباء والماء في 2011، فوزير دولة لشؤون الكهرباء والماء في 2012، فوزيراً للطاقة مجدداً في 2014، فوزيراً لشؤون الكهرباء والماء في 2016، فرئيساً لهيئة الطاقة المتجددة في 2019، فرئيساً للجنة تطوير التعليم المهني في 2020.

وفي يناير 2022 تقاعد عن العمل، لكن في الشهر التالي صدر قرار من الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للنفط والغاز الطبيعي بتعيين ميرزا مستشاراً لمجلس إدارة الشركة القابضة.

وقد تسنى للرجل بحكم المناصب المذكورة أن يقود وفد البحرين إلى العديد من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة بالنفط والطاقة والطاقة المستدامة، وأن يرافق الملك في معظم الزيارات الرسمية إلى الدول الشقيقة والصديقة، وأن يشارك في بعض القمم الخليجية.

والجدير بالذكر أن ميرزا لعب، بحكم مناصبه، دوراً كبيراً في تأمين وصول الكهرباء والماء إلى السكان أثناء فترة القلاقل التي شهدتها البحرين عام 2011، كما لعب في عام 1971، بحكم تخصصه الأكاديمي، دوراً مؤثراً في تأسيس «جمعية المحاسبين البحرينية» التي تعد من أقدم الجمعيات المهنية الخليجية. إلى ذلك يحسب له أنه هندس وأعد كافة أوراق وملفات وبيانات اتفاقية سبتمبر 2015 لتشييد خط أنبوب النفط الجديد الرابط بين السعودية والبحرين، والذي تمّ تدشينه عام 2018.

وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أنه قرر سنة 1998 وهو على رأس عمله الوزاري، أن ينجز أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، فأنجزها ونال درجتها من جامعة ميدلسكس Middlesex البريطانية سنة 2003 في موضوع «إدارة التغيير».

 

Email