واقعية التجنيد بين الدول

ت + ت - الحجم الطبيعي

تسعى كثير من التنظيمات والجهات والدول المعادية إلى تحقيق مصالحها الخاصة بطرق ملتوية، وتتخذ أساليب عدة لذلك، منها محاولة اختراق الدول والمجتمعات، وتجنيد الأشخاص واستقطاب العقول لتنفيذ أهدافها، وهذا الذي ذكرناه ليس من قبيل نظرية المؤامرة التي لا مبرر لها، بل هي حقيقة واقعية وتاريخية.

وإذا رجعنا إلى العصر النبوي رأينا أمثلة على ذلك، فعندما تخلف كعب بن مالك وصاحباه رضي الله عنهم عن معركة تبوك بغير عذر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم، ردعاً وتأديباً، فهجرهم المجتمع، وأصابهم من الكرب ما أصابهم، وفي وسط هذه الظروف تفاجأ كعب بن مالك برجل مبعوث إليه، ومعه كتاب من ملك غسان، وإذا فيه:

«أما بعد، فإنه قد بلغني أن ‌صاحبك ‌قد ‌جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسِك»، هكذا طارت الأنباء إلى ملك غسان، الذي حاول أن يستغل هذا الظرف.

ويغري كعب بن مالك باللجوء إليه، ويلعب على وتر الكرامة والحقوق والجاه والمال، ويحاول أن يوغر صدره تجاه الدولة مدعياً أنها اتخذت ضده إجراءات تعسفية ظالمة، ولكنّ معدن كعب رضي الله عنه كان أصيلاً، وإيمانه قوياً، فلم يستجب لهذا الإغراء والاستقطاب، وثبت على حبه لدينه وانتمائه لوطنه، إلى أن فرج الله عنه.

إن هذا المثال يبين أن محاولات التجنيد والاستقطاب أمر واقعي متجدد عبر العصور، حيث تحاول بعض الجهات والدول المعادية اختراق المجتمعات، وتقصي أخبارها، ورمي الشباك لتجنيد بعض أفرادها، واستخدام أساليب الإغراء المختلفة، لتجنيد هذا الفرد أو ذاك، وتشويه صورة دولته وقيادته أمامه، وتحريضه على مجتمعه، واستغلال ظروفه، ليضعف انتماؤه، ويختل ولاؤه، فيكون فريسة سهلة الانقياد.

ولا تكمن خطورة هذه المحاولات على بعض الدول المعادية فقط، بل تتعدى إلى تنظيمات وجهات لها مآربها الخاصة، والتي حملت على عاتقها اختراق العقول وتجنيد الأفراد، كما هو الحال مع تنظيم «الإخوان» و«القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» وغيرهم.

فمن استراتيجيات هذه التنظيمات محاولة استقطاب الأفراد وتجنيدهم لصالح خططهم ومن يحركهم، وقد تمكنت هذه التنظيمات من خداع كثير من الشباب، واختطاف عقولهم وولائهم وتجنيدهم بطرق شتى، وهذه حال مثل هذه التنظيمات على اختلاف توجهاتها وأهدافها في أي بقعة من العالم كانت.

كما نرى كذلك المنظمات الموجهة واللوبيات التي تستهدف اختراق المجتمعات لفرض أيديولوجياتها تحت شعارات براقة، وتسعى لتوظيف العقول والأقلام لتطويع المجتمعات، واستغلال أدوات التأثير المتنوعة، ولا شك أن هذه الأدوات التقنية تلعب في عصرنا الحديث دوراً كبيراً في التأثير والاستقطاب، ومنها القنوات الموجهة والإعلام الجديد في الفضاء المفتوح.

حيث تستطيع أي جهة ضخ أيديولوجياتها وتوجهاتها للتأثير على المجتمعات، بما في ذلك تشويه الدول، والتحريض ضدها، وكسر الروح المعنوية للمجتمعات، وكسر الولاء والانتماء، وتكريس الانقسامات والصراعات، وتدمير القيم وسلخ الهوية وخلخلة الثقافة الوطنية، ونشر الأجندات الشاذة، والأفكار الهدامة.

إن هذه الحقائق الواقعية تقتضي من المجتمعات ضرورة أن تحصن نفسها من هذه الاختراقات، وأن تكرس قيم المواطنة الصالحة، وتعزز الولاء والانتماء، وتغرس ذلك في نفوس الأجيال، وخير ما يتم تحصين النفوس به تقوى الله تعالى ومراقبته، فيعلم الإنسان أن وطنه أمانة، وأن اصطفافه مع قيادته واجب محتم.

فلا يرضخ لأي تجنيد أو استقطاب تحت أي ظرف كان وتحت أي إغراء أو تهديد، ولذلك لاحظنا في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه كيف أنه صمد صمود الجبال مع شدة الإغراءات وصعوبة الظرف، قال الحافظ ابن حجر: «دلَّ صنيع كعب على قوة إيمانه، ومحبته لله ولرسوله، وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك، وتَحمِلُه الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره».

إن التجنيد والاستقطاب لا يتوقفان على الصور التقليدية المباشرة فقط، وإن كان ذلك من الخطورة بمكان، بل يشملان كذلك صوراً كثيرة كما سبق، منها التجنيد غير المباشر بغسل الأدمغة وتغيير القناعات، فينقلب الإنسان ضد وطنه ومجتمعه، ويصبح سلاحاً بيد الجهات المعادية من حيث شعر أو لم يشعر، ولذلك فإن الضمير الوطني القوي والوعي اليقظ من أهم الأسلحة في مكافحة التجنيد والاستقطاب أياً كانت صورهما أو أشكالهما.

* كاتب إماراتي

Email