المبنى العتيق.. الحجرات السـرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

«علينا ألا نحجب النظر عن جمال الكلمة ومتعة تأمل مفرداتها.. هكذا نكون مُجرّدين من أي أسلوب أو خطاب مُبتذَل»

 

وضع الروائي الفرنسي جان كوكتو كل مفاتيح الحجرات السرية في حياته على المنضدة أمامه وبدأ اعترافاته، قال: «حينما أفرغ من كتابة أي عمل، فإنني أتركه يسعى بين الناس كما كتبته، فأنا لا أعيد تنقيح أو مراجعة ما أكتب.. ينبغي أن يكون في الكتابة بعض «السم» - للكلاب المسعورة بالطبع - ويجب أن يكون فيها بعض الشوك. وفي معظم الأحوال فأنا لا أضع وسادة من الريش تحت رأس القارئ، بل أحد القنافذ، وأعتقد أن الكتابة يجب أن تؤرق القارئ، وأنا على طول الخط ضد الأقراص المسكّنة وضد حبات التنويم».

أما عن هذه النافذة، فهي النافذة المقابلة لنافذتي، ومن يقطنها هو الروائي الفرنسي «إيمانويل»، ذاك الفتى الوسيم الذي نذر حياته بعد أن ماتت زوجته، واشتدَّ حزنه عليها حتى كاد يذهب عقله، وكرّسها في تأليف وكتابة الروايات، فكان حامل اللقب «الكاهن»، فكانت جميع رواياته كسجع الكهّان، كلامهم غير مفهوم، ويثير الاضطراب، وله من الغموض باع طويل.

لطالما كان يشغلني التناقض الذاتي في تركيب شخصيته، ضجيج وسكون في آنٍ واحد، عندما أرى تزاحم الأوراق أمام نافذته، وتلك الأصوات المتصاعدة والسمفونيات الغريبة، يمكنني استيعاب أن ذاك الضجيج قد بلغ المدى، ووصل إلى الحدّ الأقصى، وكأنه طائر مكبّل بسلاسل، ينطوي وينكمش، وينعزل بين غلاف كتاب مزعوم وصفحات غامضة.

التشابه بين شخصية «جان كوكتو» وشخصية «إيمانويل» يضعك أحياناً في حيرة ولحظة من لحظات التأمل.
 
لحظة تأمل

هل يحتاج القارئ منا إلى تلك الأقراص المسكّنة وحبات التنويم، أم أن علينا أن نضع جميع مفاتيح الحجرات السرية على تلك المنضدة، كما يقول الكاتب والروائي جان كوكتو. في حقيقة الأمر أتفق جداً مع وجهة نظر الكاتب، فمن الجميل أن نناقش المواضيع بكل شفافية لإظهار ما وراء الستار، ويا حبذا لو نرفع الستار عن أعين من يسدلها، ونفتح النوافذ والأبواب.

علينا ألا نحجب النظر عن جمال الكلمة ومتعة تأمل مفرداتها، والإحساس بتلك الظاهرة الفسيولوجية المتولّدة عند استشعارنا جمال ذاك الصوت الخفي من بين تلك السطور والألحان والألوان المتناغمة كلوحة فنان تتجسد بين أوراق تصبغ نفوسنا وأعيننا.. نشعر بما يشعر به الكاتب.. نبتهج وتنشرح صدورنا عندما يسعد هو ويبكينا، ويدخل الضيق إلى صدورنا.. عندما يحزن.. هكذا يجب أن نكون مُجرّدين من أي أسلوب أو خطاب مُبتذَل.

Email