من مخرجات الدولة الوطنية [3]

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقوم الدولة الوطنية على مبدأ النظام والانضباط والالتزام بالقرارات والأنظمة والقوانين، وعلى احترام السلطات الرسمية، وهو ما يندرج تحت مبدأ مهم قرره العلماء لما فيه من تحقيق الغايات والمصالح الكبرى، وهو مبدأ طاعة ولي الأمر.

وذلك باعتباره مسؤولاً عن رعيته، وتصريف شؤونهم، والنظر في مصالحهم، وصيانة حقوقهم، وإدارة أمور البلاد، وتوجيه سياساتها الداخلية والخارجية، وحمايتها من أي ضعف أو عدوان، ولا شك بأن كل هذه المقاصد لا تتحقق إلا بالتزام الجميع بما يصدره الحاكم من أنظمة وقرارات لتحقيق مصالح العباد والبلاد.

إن طاعة الحاكم أمر متقرر في الكتاب والسنة، وتقريرات الصحابة وأهل العلم من بعدهم، لما فيه من تحقيق المصالح الكبرى التي تعود بالخير على الجميع، فالأمر لا يتعلق بالحاكم باعتبارات شخصية، بل باعتباره رئيس الدولة والمسؤول عن إدارتها، والمنوط به تحقيق المصالح العامة والخاصة للجميع، والحفاظ على النظام والازدهار في المجتمع.

من أجل ذلك ولتحقيق هذه الغايات وطَّد الشرع الحكيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس متوازن، وذلك وفق مبدأ الالتزامات الثنائية بين الطرفين، فكما يقع على الحاكم من التزامات تجاه مواطنيه، فكذلك يقع على المواطنين التزامات تجاه الحاكم وما يتفرع عنه من سلطات، ومن أهم ذلك مبدأ الطاعة والانضباط، ونظراً لارتباط هذه المسألة بالمقاصد الضرورية والمصالح العليا أحاطها الشرع بسياج منيع، فأوجب المحافظة عليها في مختلف الظروف والأوقات، كما جاء في الحديث:

«عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، ‌وأثرة ‌عليك»، فلا يجوز لأي فرد الإخلال بالتزاماته تجاه الحاكم وانتهاك الأنظمة والقوانين، لما يترتب على ذلك من المفاسد والفتن.

وقد رأينا من يسعى لهدم هذا الأصل تحت شعارات زائفة، من التيارات الأيديولوجية المختلفة، ومنها تلك التيارات الدينية الحزبية، فيزعم بعضهم أن طاعة الحاكم لا تكون إلا للعادل الكامل، ثم يفسرون العدل وفق أهوائهم، فيجيزون الخروج على الحكام بدعوى أنهم فاقدون للأهلية من منظورهم الأيديولوجي والحزبي، ليتسنى لهم الاستيلاء على أنظمة الحكم، وقد أغلق الشرع الحكيم هذا الباب في نصوص كثيرة، منعاً لمثل هذه الأهواء والتلاعب، فأوجب طاعة الحاكم، كما جاء في الحديث:

«‌من ‌رأى ‌من ‌أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية»، وذلك كي لا ينزلق المجتمع إلى الفوضى وانعدام القانون، فتسود شريعة الغاب، ويأكل القوي الضعيف، ويعتدي الكبير على الصغير، ويتمزق نسيج المجتمع، وفي المقابل حذر الشرع من ظلم الرعية، كما في نصوص كثيرة، بما يحقق التوازن في هذه العلاقة المهمة بين الحاكم والمحكومين.

إن دعاة الفتن يحرصون على كسر هذه القيمة الوطنية، بطرق شتى، تارة باستثارة العواطف وتهييجها، وتارة بالكذب ونشر الإشاعات، وتارة بالخطاب الديني المضلل، وغير ذلك من الوسائل، وكذلك أدعياء الحقوق، ولا يبالون بما يترتب على تحريضهم من سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وتشريد الناس، وهدم الدول على رؤوس أهلها، والعاقل يعلم أن بناء الدول ونهضتها لا تقوم على ما فيه هدمها وخرابها!!

ومن يتأمل التاريخ والواقع يجد البراهين الواضحة على صحة ما ذكرناه، وأن في مخالفة هذا الأصل مفاسد كبرى، فالخروج على الحاكم سبب للفتن والقلاقل، وانقسام المجتمع وتناحره ودخوله في حروب أهلية، واستغلال العصابات والتنظيمات لحالة الفوضى، للتسلط على رقاب الناس، واستنزاف خيرات البلاد، وانتشار الظلم والنهب والعدوان، وانهدام الضروريات الكبرى التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها.

ومما يعين كل فرد على تطبيق هذا المبدأ الوطني وهو طاعة الحاكم في مجتمعه تعميق حسه الديني والوطني، وتعميق إحساسه بمسؤولياته تجاه وطنه ومجتمعه، وتغليب النظرة العقلانية للأمور، وإدراكه لما يترتب على الإخلال بهذا الباب من المفاسد والشرور، وما يترتب على الالتزام به من المصالح والمنافع، فيكون قدوة في الالتزام والانضباط، ويغرس ذلك في نفوس أسرته وأبنائه، ويطبقه واقعاً عملياً في حياته، محتسباً الأجر والثواب من الله تعالى.

إن طاعة الحاكم من أهم مخرجات الدولة الوطنية، التي تقوم على الانضباط والنظام، وعلى تكاتف الحاكم والمحكوم، لتحقيق الرخاء والازدهار والانطلاق نحو المستقبل المشرق.

*كاتب إماراتي

Email