المَبنى العَتِيق.. «بدونك أشعر بأني أعمى حقاً»

ت + ت - الحجم الطبيعي

«رسائل وعَلامَات تتراءى لنا، تخاطراً أو استبصاراً، على نحو قد نراه صدفة أو مشابهة أو حتى مفارقة!»

كتب طه حسين إلى زوجته سوزان يقول: «بدونك أشعر بأني أعمى حقاً. أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي». وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول: «ذراعي لن تمسك بذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عينيَّ المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة».

هكذا كانت نافذتي الثالثة، التي كان يسكنها ألبرت والدكتورة أديل وهما صاحبا هذا المبنى الغريب! تُذكر لهما قصة أثارت دهشتي، وذكرتني بعميد الأدب العربي طه حسين. كان ألبرت عربي الأصل وفرنسي الجنسية وأديل فرنسية الأصل، دخلا، للمفارقة، مزاداً علنياً على بيع مبنى مقابل لميدان الكونكورد ‏الذي يعد من أكبر الميادين في باريس، عاصمة فرنسا. ويقع في قلب باريس في نهاية شارع الشانزليزيه من ناحيته الشرقية. وكانت ملكية ذلك المبنى تعود لسيدة عجوز لا وريث لها! أقامت تلك السيدة المزاد الأول والأغرب من نوعه، فوضعت في وسط تلك الساحة ذلك الكرسي المحشوة جوانبه بفلين، والمحكوم بربطة عتيقة عفا عليها الزمن، وجلست! اسْتَغْرَقَ ذلك المزاد يوماً كاملاً، فجلست عَلَى ذاك الكُرْسِيِّ من شروق الشمس حتى شروق الشمس من جديد في اليوم التالي، ولم تضع أي شرط أو ترتيبات لدخول ذلك المزاد سوى ذاك الكرسي ولائحة كُتب عليها «آخر ثُنائي»! لم يُعِرهَا أحد طبعاً انتباهاً، ولم تكن موضع اهتمام وخصوصاً مع تساقط الثلج! ومع أن ذلك البَرْد قَارِسٌ للغاية إلا أنه لم يحرك منها ساكناً، وبعد الساعة الخامسة صباحاً دخل ألبرت الذي كان يعمل مُمرِّضاً في أحد المستشفيات وزميلته الدكتورة أديل التي كانت من ذوي الإعاقة البصرية، وكان الممرض يساعدها كل ليلة لتوصيلها إلى باب منزلها الذي كان يقع في نهاية ذاك الشارع.

وقعت عيناه على السيدة العجوز فتوقف وهو يمسك بذراع أديل، وقال لها: ما خطبك يا سيدتي هذا الجو خطر جداً، ستصابين بمرض القلب، كيف يمكنني مساعدتك؟ قالت السيدة العجوز: من تكون هذه الفتاة؟ قال لها: هذه الدكتورة أديل زميلتي. دخل ألبرت ومعه أديل والسيدة العجوز وشرحت لهما السيدة عن شرطها، وكتبت، للمفاجأة، ذلك المبنى لألبرت والدكتورة أديل التي أصبحت زوجته فيما بعد.

لحظة تأمل!

هل نحن في حاجةٍ ماسَّة لقراءة الرّسائل الكونية، أو قراءة تلك العَلامَات التي تتراءى لنا، تخاطراً أو استبصاراً على نحو قد نراه صدفة أو مشابهة أو حتى مفارقة، في كثيرٍ من الأحيان، والتي قد لا نعرف مفاهيمها وفق نسق التفكير المعهود والمعتاد؟

Email