كيف يمكن إنقاذ الأفغان من تطرف طالبان؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أشهر من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حينما كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تتفاوض في الدوحة مع قادة حركة طالبان على إحلال السلام في هذه البلاد المنهكة من الحروب، كتبنا هنا أن أسوأ عمل تقوم به واشنطن التفاوض مع طالبان وجهاً لوجه، لأن في ذلك إضفاء للشرعية على حركة متشددة، بل فيه أيضاً تراجع خطير عن كل ما تم إنجازه من تنمية وإصلاحات محدودة في السنوات التي أعقبت طرد طالبان من السلطة. وقتها كان الشعار السائد في الإعلامين الأمريكي والغربي أن «طالبان اليوم ليست كطالبان الأمس»، بمعنى أن الحركة قد تغيرت واستفادت من دروس هزيمتها، وبذلك فهي لن تعود إلى ما كانت تقوم به لو تسلمت السلطة مجدداً.

ما حدث بعد ذلك انسحاب القوات الأمريكية والأجنبية بالشكل الفوضوي المعروف، والذي سمح لطالبان بأن تجرف كل ما في طريقها بسهولة نحو السلطة في أغسطس 2021، وسط مشاعر الخوف والذعر واليأس لدى شريحة كبيرة من الأفغان الذين عملوا كل ما في وسعهم لمغادرة بلادهم مع الأجانب الراحلين ورموز حكومتهم الشرعية المنهارة، خوفاً وهلعاً مما ينتظرهم من مستقبل قاتم أو أعمال انتقام على أيدي الحكام الجدد.

ولفترة قصيرة بعد تسلمها السلطة تظاهرت طالبان أمام المجتمع الدولي بأنها فعلاً قد تغيرت، وأنها لا تنشد سوى السلام والتنمية ومشاركة العالم توجهاته وقيمه الحضارية. وقتها تركزت الأعين والأسماع على أول مؤتمر صحافي للمتحدث الرسمي باسم الحركة «الملا ذبيح الله مجاهد» الذي لم يتردد في القول علناً إن طالبان تحترم حقوق النساء وتسمح لهن بالعمل والتعليم، وتعترف بالنظام الدولي وقوانينه وأعرافه، وتفسح المجال لوسائط الإعلام الأجنبية للعمل والتحرك داخل البلاد بحرية. إلى ذلك قدم بلاده بلداً منفتحاً على الاستثمار الأجنبي وشريكاً راغباً في التنمية الاقتصادية والتطوير والإصلاح.

ما ورد في ذلك المؤتمر الصحفي طمأن الكثيرين من صناع القرار في الشرق والغرب لجهة نوايا طالبان، بل إن قائد الجيش البريطاني الجنرال «تيك كارتر» خرج ليؤكد أن متشددي طالبان لم يعودوا كما كانوا في التسعينيات وأنهم اليوم أقل قمعية وتشدداً من الماضي.

ومع مرور الأيام، واستمرار رفض المجتمع الدولي الاعتراف بحكومة طالبان وبقاء أموال البلاد مجمدة، تبخرت وعود ذبيح الله سريعاً.. وذلك مع إقدام سلطات طالبان في العام المنصرم على منع ظهور النساء على شاشات التلفزة الرسمية، لتتوالى فرماناتها بعد ذلك بمنع النساء دخول الحدائق والقاعات الرياضية ومنعهن السفر والعمل في المنظمات غير الحكومية الدولية وارتداء الملابس الملونة، وصولاً إلى القرار الأخير بحرمان الأفغانيات حق التعليم الجامعي. وكانت الأمم المتحدة قد أعدت تقريراً عن الوضع الأفغاني في نوفمبر الماضي جاء فيه أن ما تفعله طالبان يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية. أما رئيس البعثة الأمريكية في كابول فقد صرح في أواخر ديسمبر المنصرم قائلاً: إن بلاده تدرس مجموعة من الإجراءات لمعاقبة طالبان وعزلها!

ولكن هل معاقبة وعزل طالبان كفيلان بتخليها عن نهجها؟ بل كيف تستطيع واشنطن أن تعاقب الحركة كحل لمعاناة الأفغان؟ في وقت تتحرك فيه بعض القوى المنافسة للولايات المتحدة كالصين وروسيا إلى بناء جسور التعاون مع طالبان للاستفادة من الموقع الاستراتيجي لأفغانستان المحشورة بين وسط وجنوبي آسيا، ناهيك عن محاولات مماثلة من قبل الهند للدخول على خط غريمتها الصينية عبر إبداء استعدادها لاستئناف مشروعاتها التنموية في أفغانستان.

صحيح أن دعوات عزل ومعاقبة طالبان تزايدت في الفترة الأخيرة، ولكن الصحيح أيضاً وجود دعوات مضادة تشدد على الإبقاء على قنوات اتصال معها من أجل إيصال المساعدات الإنسانية للشعب الأفغاني المضطهد، وخصوصاً مع تعثر الاقتصاد الأفغاني واحتمالات حدوث مجاعة جماعية.

والحقيقة الأولى التي يجب أن تقال أن واشنطن تدفع اليوم ثمن خروجها المتعجل من أفغانستان وتضحيتها بالحكومة السابقة التي مهما نعتت بالفساد والضعف، فإنها على الأقل لم تكن قمعية أو تحكم بفرمانات القرون الوسطى. والحقيقة الثانية أنها اليوم في ورطة، لأنها إذا عزلت طالبان أو نفضت يدها تماماً من الشأن الأفغاني فإن خصومها سيحلون مكانها، وإن فعلت العكس فليس هناك ما يضمن لها تراجع طالبان عن أيديولوجيتها المتزمتة، أما إذا قررت مثلاً أن تدعم القوى المعارضة للطالبانيين بهدف إسقاطهم، فإن ذلك يعني غوصها في الوحل الأفغاني مجدداً.

 

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

Email