إن كل إنسان في هذه الدنيا، يتمنى أن يعيش في استقرار وأمان، مطمئناً على نفسه وأهله وماله، لا يجد ما ينغص عليه حياته، فيبيت قرير العين، ويقوم مرتاح البال، يقضي مصالحه هنا وهناك، دون خوف ولا انكدار، ولأهمية هذه النعمة العظيمة، وأثرها الكبير في حياة الناس، طلبها الأنبياء عليهم السلام من ربهم، كما قال تعالى:
{وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً}، فابتدأ سيدنا إبراهيم عليه السلام دعاءه، بطلب نعمة الأمن، قال بعض المفسرين: والابتداء بنعمة الأمن في هذا الدعاء، يدل على أنه من أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به، ولا يتذوق الإنسان طعم النعم الأخرى إلا به.
والناظر اليوم في ما يجري من صراعات وحروب وأزمات تعصف ببعض المجتمعات، تتأكد لديه أهمية نعمة الأمن والاستقرار، هذه النعمة التي حُرم منها أولئك، وأصبحوا يتمنون عُشر معشار ما عند غيرهم من الاستقرار، فالأمن عند غيرهم تاج مضيء، يرونه بأعينهم، فيتمنون ياقوتة واحدة من يواقيته، كيف لا، وهم يجدون بلدانهم ممزقة، وأطفالهم مرعوبة، وعوائلهم مشردة، لا يكادون يهنؤون بلقمة عيش، ولا يتذوقون طعم الهناء والسعادة.
ولذلك، فإن من مقاصد العقلاء والحكماء في كل مكان، إرساء دعائم الاستقرار والسلام في المجتمعات، وإخماد نيران التصارع والتناحر، وخاصة أن الصراعات قد يتطاير شررها، وتمتد آثارها، وبالأخص في عالمنا اليوم، الذي أصبح كالقرية الصغيرة، والمجتمع الإنساني بطبيعته، منذ فجره الأول، مجتمع تعاوني بالضرورة، يحتاج بعضه إلى بعض، وترتبط مصالحه أفراداً ومجتمعات ارتباطاً متشابكاً.
ولا يتم تحقيق هذه المصالح إلا بتعزيز الاستقرار، فيأمن الناس بعضهم على بعض، ويتعاونون معاً في تحقيق مصالحهم المشتركة، وفي ذلك يقول ابن خلدون: «الاجتماع الإنساني ضروري»، وقال ابن القيم: «جعل الله سبحانه نوع الإنسان يحتاج بعضه إلى بعض، فلا يمكن لإنسان أن يعيش وحده، بل لا بد له من مشارك ومعاون من بني جنسه، كما قيل: الإنسان مدني بالطبع».
ولا شك أن ما في الجنس البشري من قابلية للخير والشر، وميل للسلام والعنف، يقتضي من العلماء والمثقفين وكل صاحب فكر وقلم، تعزيز القيم الإيجابية التي تعلي الخير على الشر.
وترفع السلام على العنف، وتحرر الإنسان من القيود الضيقة التي تهوي به في دركات العدوان واللامبالاة، سواء كانت قيوداً ذاتية أنانية، أو حزبية أو أيديولوجية أو غيرها، وتغرس فيه مبادئ الرحمة والعطف ونبل المشاعر، وتحرك دوافعه لمد يد العون والمساعدة، والإسهام الأخلاقي الفاعل، الذي يعلي صرح الحضارة الإنسانية الراقية، فيكون الإنسان متسامياً على غيره من الكائنات، بنهجه الأخلاقي الشامخ، الذي يعزز الأمن والاستقرار والسلام.
فقد كرمه الله تعالى، كما قال: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}، كرَّمه الله بالعقل والعلم، والنطق والشكل، واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر، واكتساب الأخلاق الفاضلة بالمجاهدة والإرادة.
ومتى تهذَّبت طباع الإنسان وارتقى فكره، وامتد نظره ونبض قلبه رحمةً وتسامحاً، كان أحرص ما يكون على استدامة نعمة الأمن والاستقرار في مجتمعه، وأبعد ما يكون عن كل ما يعكر صفو ذلك ويخل به، وعمل كل ما في وسعه للمحافظة على هذا الكنز الثمين، وخاصة وهو يرى غيره من المحرومين منه، وإن تعجب، فعجب من أولئك الذين هم على النقيض من ذلك، فتراهم يسعون لهدم مجتمعاتهم وأوطانهم، بالخيانة والتآمر، وخدمة أحزاب وتنظيمات وجهات تستخدمهم لتحقيق أجندات مظلمة ضيقة، دون مراعاة لقيم دينية ولا إنسانية ولا وطنية.
والاستقرار مفهوم كبير واسع، ومن صوره أن يترجمه الإنسان واقعاً ملموساً في حياته وممارساته اليومية، ومن ذلك، حسن تعامله مع الآخرين، ببسمته التي تشرح الصدور، وكلمته التي تُبهج النفوس، ورأيه الأصيل الذي يُنير العقول، وبصبره وتسامحه وصفحه وعفوه، واستعلائه عن الانتقام ومقابلة الإساءة بالإساءة والإضرار بالآخرين، فيكون بحسن تعامله مع أسرته وأقاربه، سبباً لاستقرار حياتهم، وبحسن جيرته، سبباً لاستقرار جاره، وبحسن زمالته الوظيفية، سبباً لسعادة زميله، وبحسن تعامله مع وطنه، سبباً في استدامة أمنه ورفعته وازدهاره.
* كاتب إماراتي