أتحفنا الأخ والصديق العزيز، سعادة المستشار إبراهيم محمد بوملحه، مستشار صاحب السمو حاكم دبي للشؤون الثقافية والإنسانية، بقصيدة رائعة عنوانها «ذكريات من الفريج». القصيدة تزخر بفيض من المشاعر الجميلة المتصلة بمرحلة الطفولة وبراءتها وعفويتها، يتحدث فيها عن بيتهم القديم، يتذكر أهل البيت، وجوههم، أصواتهم، ضحكاتهم، ويستعيد الأماكن التي جلس فيها، والتي لعب فيها، وذكريات الأمس التي ما فتئت تلوح في مدى الأحداق، بينما باب البيت موصد، ليس ثمة من يطرقه، يشكو الجفاء الذي ما عاد يحتمل في ظل الصمت القاتل، يتساءل عن الصغار الذين ضجوا بساحة الدار، ومطاردتهم لحمام البيت، وتكسيرهم لأواني الطبخ، وإزعاجهم للأهل، حتى إذا ما صاح قائلهم «هاتوا العصا» استكانوا وانتهى العذل.
ثم يمضي متسائلاً عن البيوت التي كانت مشيدة بالحب وأهلها، مستذكراً «السكيك» التي كانت لها منزلة كبيرة، والركض فيها حفاة بلا نعال، وعصف الريح الباردة في ظلمة الليل دون خوف ولا وجل، مشبهاً صوت الريح بالناي. ولا ينسى الشواحيف (قوارب الصيد الصغيرة) والطيور البحرية والمسابقات التراثية التي عاش حلاوتها، مشيداً بذلك الجيل الذي كان رجاله يتمتعون بصفاء النفس، وينهي القصيدة داعياً لوالديه وأهل الحي بالرحمة والمغفرة.
قصيدة جميلة تتجه إلى العاطفة بشكل مباشر، وتثير من الشجن ما لا يمكن مداراته، خاصة لأبناء الجيل الذي عاش تلك المرحلة بكل تفاصيلها، وهي مرحلة الانتقال من حياة ما قبل اكتشاف النفط إلى مرحلة النفط التي غيرت كل شيء على ظهر الأرض في الإمارات، خاصة بعد قيام الدولة وانتشار التعليم بشكل واسع، وظهور مجالات عمل جديدة في المجتمع، بدأت تتراجع أمامها الأعمال التي كان يمارسها الآباء والأجداد خلال فترة الستينيات من القرن الماضي وما قبلها.
ولأنني من جيل مقارب لجيل سعادة المستشار إبراهيم بوملحه، ولأننا كنا نسكن فريج «الضغاية» القريب من فريج «سكة الخيل» الذي كانوا يسكنونه، وقد تم دمجهما تحت اسم «الضغاية» الآن، فقد وجدت نفسي منجذباً إلى القصيدة، ليس لجودتها وجمال صياغة أبياتها فقط، وإنما للمعاني الرائعة التي احتوتها، والصور التي جسدتها حتى بدت كأنها تبعث تلك الصور من جديد في هذا الزمن، رغم أنه لم يعد ماثلاً منها سوى نماذج قليلة، تم إعادة إحياء بعضها، مثل منطقة «الشندغة» في بر دبي، وذلك في إطار خطة إعادة إحياء وتطوير منطقة دبي التاريخية، التي تقع ضمن خور دبي، وتحويلها إلى مركز ثقافي وحضاري، وهي الخطة التي اعتمدها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، عام 2015م.
هذا الشجن ليس مبعثه الحنين إلى الماضي، أو «النوستالجيا» التي يصنفها البعض حالة مرضية، وإن كان هذا الحنين ليس عيباً، فالماضي هو حياتنا التي عشناها بكل ما فيها من نجاحات وخيبات، فحياة الإنسان إنما هي تمازج الأحداث والمشاعر التي عاشها بأطيافها المختلفة، فالتحدي الأكبر الذي يواجه أي إنسان في الحياة هو تجاوز المحن وتحويلها إلى منح ودروس يتعلم منها أنه لا حزن يدوم ولا سرور، كما يقول الإمام الشافعي في قصيدته التي يصف فيها حال الدنيا.
مبعث الشجن هو الفقد الذي نشعر به جميعاً تجاه الوجوه التي غابت ولن تعود أبداً، وهو شجن ربما لا يشعر به الإنسان بشكل قوي إلا عندما تمر فترة طويلة إلى حد ما على مفارقة الذين كانوا يشكلون محور حياته في زمن كانت الحياة فيه كما يتصور مقبلة غير مدبرة، لكنه عندما يستعرض ما مضى من حياته ترق مشاعره، وتغدو الصورة أمامه أكثر وضوحاً، بعد أن كانت عجلة الحياة تأخذه بعيداً عن لحظة التأمل الشفيف هذه.
ومع الاعتراف بهذه الحقيقة، إلا أن الحنين إلى قيم الماضي ربما يشكل الجزء الأكبر من هذا الشجن ويذكي جمرته، فكلما أوغلت المجتمعات البشرية في المدنية تراجعت مساحة الترابط والتواصل بين أفرادها، ولهذا كانت فرجان ذلك الزمن، التي أبدع سعادة المستشار في تصويرها، مجتمعات بشرية ناطقة بالحياة أكثر منها مجتمعات أسمنتية صامتة، يعرف كل فرد فيها الآخر، يراه كل يوم، ويشاركه تفاصيل حياته، رغم أن هذه التفاصيل كانت بسيطة لم تصل إلى التعقيد الذي غدت عليه الآن، والذي بفعله اختفت من القيم التي كانت سائدة في ذلك الزمن، وحلت محلها قواعد، لا ترقى إلى تسميتها قيماً، فرضتها طبيعة الحياة التي أصبح كل إنسان فيها كياناً منعزلاً، يسعى إلى تحقيق مصلحته الفردية، حتى لو كان هذا على حساب مصالح بقية أفراد المجتمع. «ذكريات من الفريج» ليست مجرد قصيدة، ولكنها زفرة شاعر مرهف الحس، نقي النفس، متقد المشاعر.