التغيرات في الأطر الثقافية للمجتمع

ت + ت - الحجم الطبيعي

«الثقافة» مفهوم لا يخلو من التباسٍ قد لا يكون بسيطاً، حاولت على المستوى الشخصي الإحاطة ببعض التباساته فوجدت ذلك صعباً جداً، فهناك ما يزيد على المئتي تعريف تسعى لاحتوائه. مفهوم «الثقافة» يتداخل مع مفاهيم أخرى لها معاني مختلفة بعض الشيء حسب طبيعة الاستخدام، فصفة «المثقف» التي تضفى على الفرد في اللغة العربية تختلف عن الصفة نفسها التي تضفى على المجتمع، لذا فضلت، وأنا لست بمجتهد، عدم اللجوء إلى اقتراح صيغة جديدة لهذا المفهوم في أطر ما أسعى التطرق إليه.

ما يهمنا في سياق هذه المقالة ليس مصطلح الثقافة وما يحيط به من التباسات بل التغيرات التي تطرأ على «ثقافة المجتمع» التي تعني «معالم وطبيعة الحياة المشتركة لأفراده التي صنعتها تراكمات تكرست على مر السنين للمعتقدات والأساطير والعادات والممارسات والسلوكيات اليومية ومنظومات المعايير للتعامل معها». تحدث هذه التغيرات بفعل مؤثرات داخلية تنشأ بشكل طبيعي خلال تطور تقليدي بطيء جداً عبر مؤسساته، أو بفعل مؤثرات خارجية يتعرض لها ليس من السهل تجاهل دورها وتفرض تطوراً غير تقليدي بشكل سريع جداً، فالركود ليس من صفات الحياة. قد تحدث بعض التغيرات في ثقافة هذا المجتمع أو ذاك بفعل تغيرات بيئية كبيرة تطرأ في محيطه أو بفعل تغيرات في الخريطة الجغرافية الإقليمية نتيجة تقلبات في التوازنات السياسية والعسكرية إلا أننا لن نتناول هذا أو ذاك، فهما لا يشكلان القاعدة في التغيرات الثقافية في المجتمعات.

الناس ينتقلون من جيل إلى جيل مع إضافة أفكار وأشياء جديدة إلى الحياة، هذه العملية الديناميكية تعزز التغيير الثقافي، فلكل جيل ثقافة جديدة تختلف عن سابقتها قليلاً أو كثيراً حسب الظروف التي يمر بها وطبيعة المؤثرات التي يتعرض لها. المجتمعات التي تصنع التقدم ووسائله التكنولوجية تبتكر وتطور في الوقت نفسه بُنى تحتية وأطراً فكرية وقانونية تنسجم معه وتتسق مع سياقاته؛ وتضمن حمايته وتسمح بتبنيه وتسهيل التعامل بما يتفق مع ما يقدمه هذا المنتج التكنولوجي أو ذاك من آفاق.

إلا أن التغيرات الثقافية التي تحدث في المجتمعات النامية تجري بالدرجة الأولى بفعل عوامل خارجية نتيجة تغلغل التكنولوجيا الحديثة وبدرجة أقل نتيجة تغلغل الأطر الفكرية والسياسية والمجتمعية المصاحبة لها، ولسنا نستطيع تجاهل ما أحدثه دخول وسائل النقل الحديثة السيارات والبواخر والطائرات وما تطلبه ذلك من بنى تحتية، ولا تجاهل مأ أحدثته وسائل الإعلام من راديو وتلفزيون، ولا التواصل عن بُعد عبر الهاتف الأرضي، ولا التقليل من أهمية الإنترنت والبريد الإلكتروني والهواتف الخلوية ولا غزو الفضاء الخارجي، من تأثيرات هائلة على نمط الحياة في المجتمعات، خصوصاً لدى جيل الشباب. هذا إضافة إلى دخول أساليب العمل الإداري ونظم التعليم وأساليب الصناعة وطرائق الزراعة الحديثة والوجبات الغذائية السريعة وما لذلك من دور في التغيرات في أشكال وقواعد التنظيم الاجتماعي التي سبق أن انتقلت إلينا من ثقافات الماضي.

لم تلق هذه التغيرات عقبات جدية على الرغم من أن بعضها لاقى اعتراضات محدودة التأثير، المجتمع يرحب بما هو جديد ومفيد لأنه بحاجة ماسة إلى اعتماد نمط وأسلوب جديدين من التفكير والممارسات وإدخال ما هو جديد من منجزات والتي ليس هناك ضير في اللجوء إليها وتقبل ما يترتب على استيعابها، وتقبل ما تحمله من لمسات تنقل عقلية المنتج ونمط تفكيره وأسلوب مقاربته لهذا الشأن أو ذاك، فكل أداة تحمل معها الروح التي صنعت بها، وتنقل الفكرة والأسلوب الذي يتماشى معها. فالتغيرات لا تحدث في المجتمع إلا في الحالات التي تتعرض بواباته للطرق العنيف من قبل الجديد، سواء أكان هذا الجديد اكتشافاً يتمثل في تصور جديد لأحد جوانب واقع موجود بالفعل أم اختراعاً يتمثل باستخدام المتوافر من المعرفة لإنتاج شيء لم يكن موجوداً من قبل أم انتشاراً لمعالم ثقافية تخص أناساً آخرين بفعل القرب الجغرافي وكثافة الاختلاط. وفي هذه التغيرات تستوعب ثقافة مجتمع معين في ثقافة مجتمع آخر وتتقارب الممارسات والسلوكيات لديهما وتنشأ مهن جديدة في المجتمع المتلقي للتغيير وتتوارى عن الأنظار وللأبد مهن أخرى.

والحقيقة أن هذه التغيرات في حياة المجتمعات والتداخلات في ثقافاتها تعززان من حيث المبدأ السلم بينها إذا ما تفهمت نخبها السياسية أبعاد ذلك، وحرصت على الاستفادة منه.

 

* كاتب عراقي

Email