الخير والإرادة والاستدامة لأطفال السرطان

المشروعات الخدمية الكبرى القائمة على تبرعات تأسرني. البعض يظن أن التبرع لصالح خدمة تعليمية أو علاجية أو تدريبية أو سكنية أو بحثية أو توعوية، وغيرها، فكرة غربية، لكنها ليست كذلك، بل هي عربية بامتياز. ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وعقائدنا تصبّ في خانة فعل الخير.

وهل هناك خير أكثر من أن تتبرع الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل لإنقاذ الجامعة المصرية في عام 1913 من عثراتها المالية، فتوقف مساحة من أراضيها الزراعية على الجامعة ويخصص ريعها لتوفير سيولة مالية عاجلة لهذا الصرح العلمي والتعليمي المصري والعربي! بل ويمتد شغفها بالعلم والعمل العام لتمنح الجامعة قطعة من الأرض ليقام عليها الحرم الجامعي، بالإضافة لتبرعها ببضعة آلاف من الجنيهات لأغراض البناء والتجهيز، فأصبح حرم الجامعة على ما هو عليه اليوم، منارة علمية عربية.

منارة علمية وصحية أخرى تدين بوجودها للتبرع وعمل الخير هي مستشفى الدمرداش الجامعي التابع لجامعة عين شمس المصرية. أرض المستشفى ليست إلا حديقة قصر الأزهري والاقتصادي عبد الرحيم باشا الدمرداش الذي تبرع بها في عام 1925 بالإضافة لبضعة آلاف من الجنيهات لبناء المستشفى وشراء أسرتها وإمداداتها الطبية.

أمثلة الخير في العالم العربي كثيرة، والمهم في الخير أن يكون مستداماً، بمعنى أن إعطاء قدر من المال لأحدهم أمر جميل ومحمود، لكن هذا المال إلى زوال. أما الخير المستدام فهو الذي يمكن هذا المحتاج من أن يعتمد على نفسه فيما بعد، وليس الاعتماد على الصدقة المالية.

أموال الصدقات والزكاة والتبرعات العادية من أهل الخير، ومعها إرادة وطنية وشعبية لعلاج الأطفال المصريين والعرب المصابين بأمراض السرطان المختلفة تجلت وأبدعت في مستشفى سرطان الأطفال 57357، هذا الصرح الحقيقي في قلب القاهرة قصة نجاح حقيقية بطلاها الخير والإرادة.

نقطة البداية كانت في الثمانينيات مع تقدم التشخيص مع قلة الموارد المتاحة لوزارة الصحة وعدم وضع السرطان ضمن الأولويات. الجهة الأبرز للعلاج لا سيما لغير القادرين كانت «المعهد القومي للأورام» الذي ناء بحمله. فماذا تفعل ثمانية أسرة لمئات الأطفال من شتى المحافظات المشخصين بالسرطان والآخذة أعدادهم في الزيادة مع تقدم التشخيص؟!

الدكتور شريف أبو النجا بدأ يطور الخدمات المقدمة في المعهد بشكل ييسر الخدمات العلاجية، ولكن ظلت الإمكانات القليلة عائقاً. وفي عام 1995 حدثت النقلة الحقيقية. فتح عدد من رجال الأعمال المصريين باب الخير والعمل الاجتماعي الحقيقي بتبرعات تم توجيهها لحملة إعلانية تدعو الجميع للتبرع من أجل الارتقاء بخدمات المعهد التشخيصية والعلاجية.

وظلت الجهود تنمو وتتطور إلى أن وصلت إلى ترجمة الحلم والخيال إلى واقع وحقيقة تتجلى في هذا المبنى الأيقوني الواقع في العنوان الشعبي المصري الصميم. سكة الإمام، أرض المذبح القديم، السيدة زينب.

كل من عاش أو عايش أو سمع عن طفل أصيب بالسرطان وتلقى العلاج والرعاية والاهتمام والإنسانية والحب والأمل في هذا المستشفى، وكل من تصادف مروره في محيط المبنى يرتبط ارتباطاً عاطفياً وإنسانياً به. لماذا؟ لأنه يمثل أملاً يعطى لملايين المرضى من الصغار وذويهم، وقصص عبور من المرض إلى الحياة، وحكايات أخرى كثيرة لا تصب إلا في خانة الإنسانية.

الإنسانية ستبقى طالما الإنسان باقٍ، لكن الأزمة الاقتصادية التي أصابت الجميع بدرجات متفاوتة ألقت بظلال وخيمة لا تتحملها أجساد الأطفال المرضى أو قدرات ذويهم النفسية والمادية. انخفاض التبرعات بنحو 80 في المئة يهدد حياة الصغار ومستقبل المستشفى ومصير المرضى اليوم ومرضى المستقبل.

وهذا يطرح سؤالاً أكبر حول قدرة المشروعات الخدمية الكبرى القائمة على التبرعات من الاستمرار حال حدوث طوارئ أو أحداث غير متوقعة. العديد من المشروعات الخدمية الكبرى القائمة على التبرعات في العالم تعاني جراء الأوضاع الاقتصادية. عامان من الوباء والإغلاق والإجراءات الاحترازية ألحقا العديد من الأضرار باقتصاد العالم. وما كاد العالم يلتقط أنفاسه حتى جاءت حرب روسيا وأوكرانيا لتلحق به المزيد من الضرر.

الكثير من الضرر يمكن التعايش معه مؤقتاً. كما يمكن إخضاع قوائم الأولويات لإعادة ترتيب لحين تحسن الأوضاع. لكن حين يتعلق الأمر بتشخيص وعلاج أمراض غير قابلة للتعايش أو خاضعة لإعادة ترتيب أولويات. الدقيقة لها ثمن. والثمن هو مصير المرضى الصغار وذويهم.

ندعو الله كثيراً أن تخرج 57357 من الأزمة الحالية بأقل خسائر ممكنة. فليست هناك خسارة أكثر فداحة من الوقوف بأيدٍ مكتوفة أمام طفل يشتد مرضه، رغم أن العلاج معروف لكن غير متوفر. وبعد الخروج من الأزمة الراهنة، ينبغي مراجعة سبل الاستدامة لها ولغيرها من المشروعات الخدمية القائمة على التبرعات. تعاون الخير والإرادة يحتاجان لاعباً ثالثاً ألا وهو ضمان الاستدامة.