يقول الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل، الذي عاش في القرن الـ19: «نحن - الأمريكيين - قوم متميّزون، وشعب مختار، وإسرائيل الحاضر، نحمل قوس حريات العالم». إنّه اعتقاد سائد في الولايات المتحدة الأمريكية حتى قبل تأسيسها، إذ يقول القس جون وينثروب في خطبته المشهورة عام 1630، قبل أن يحطَّ به الرحال مع أتباعه في إنجلترا الجديدة، إن المستعمَرة الجديدة في ماساتشوستس ستكون مدينة على تلّ تضيء العالم.
واليوم تئِن الولايات المتحدة تحت وطأة استقطاب عَتِيّ يشِي بمستقبل قاتم إذا ما استمرّت الأوضاع في التّردّي، وأحد أسباب هذا التّردّي الأوضاع المعيشية لقطاع واسع من شعب - بالأحرى شعوب - أمريكا. وانعدام المساواة في الدُّخُول بالولايات المتحدة هو الأعلى في الدول المتقدمة. ويقول مركز «بيو» للبحوث إن قضية المساواة في الدُّخُول أصبحت إحدى القضايا الرئيسية في السياسة الداخلية الأمريكية.
ويبيّن التقرير أن 20 في المئة من أصحاب الدخل العالي استحوذوا على ما يزيد على 50 في المئة من مجمل دخل العائلات الأمريكية. وبحسب «مؤشر جيني» (GINI Index) لقياس التفاوت في الدُّخُول، وصل معدّل عدم المساواة في الدُّخُول بالولايات المتحدة إلى (0.434) - تمثل الدرجة (0) التوزيع الأمثل للدُّخُول، والدرجة (1) التوزيع الأسوأ - بينما تراوح المعدّل في دول مجموعة السبع بين (0.343) و(0.392). ومقارنةً بالدول الأقل تطوراً في شرقي أوروبا وصل المعدّل إلى (0.25)، وفي إفريقيا جنوب الصحراء تراوح بين (0.5) و(0.6).
ولا يقتصر انعدام المساواة على مستوى المجتمع فحسب، وإنما بين الفئات الإثنية أيضاً. وتشير الإحصاءات إلى أن معدّل دخل السود في عام 2018 مَثَّل 61 في المئة من دخل البيض، برغم تحسنه من معدل 56 في المئة عام 1970. وتفاقم التفاوت في الدُّخُول مع الأزمات الكبرى التي عصفت بالولايات المتحدة، مثل الأزمة المالية في عام 2008، وجائحة كوفيد 19 في عام 2020.
وبسبب زيادة التفاوت في الدُّخُول نشأت حركة في عام 2011 عُرفت بـ«احتلوا وول ستريت»، وهو الشارع المالي في نيويورك متأثرة بالحراك الشعبي في العالم العربي والذي اجتاحته موجة من الاحتجاجات في العام ذاته. وكان المحتجون يرفعون شعار «نحن الـ99 في المئة» في إشارة إلى أن 1 في المئة من السكان الأمريكيين يستحوذون على 16 ضعف ما يحصل عليه الـ50 في المئة الأقل دخلاً في الولايات المتحدة، بحسب تقرير مجلس الاحتياط الفيدرالي (المصرف المركزي).
ويرى هؤلاء المحتجون أن التفاوت في الدُّخُول يعطي الأقلية - الواحد في المئة - ثقلاً سياسياً عن طريق شراء النفوذ بالتبرعات للحملات الانتخابية، وأن هذا النفوذ السياسي للفئة الغنية يمنع أي إصلاح حقيقي لمشكلة التفاوت في الدُّخُول. ومما عزز الاتهام إنقاذ الحكومة الأمريكية البنوك، التي أفلست بسبب الأزمة المالية في عام 2008، على حساب دافعي الضرائب الذين يعانون العوز.
وكان المواطن الأمريكي سابقاً على قناعة بأنه إذا ما عمل بجد وأمانة وتفانٍ، فسيملك بيتاً، ويكون عائلة، ويحظى بدخل منتظم. وأصبح هذا «الحلم الأمريكي» - كما يسمونه - مفقوداً اليوم في الولايات المتحدة، وبات السخط الاقتصادي - الاجتماعي مادة خصبة لزرع الفتن والانشقاق، وتجييش كثيرين شعبوياً، كما رأينا في الماضي القريب.
وكانت البرجوازية الغربية تتمتع بوعي سياسي. وعلمت بأن لا مكان للاستحواذ الكلي للسلطة والمال. وقد تعلموا من التاريخ أن العصر الإقطاعي انتهى إلى غير رجعة بسبب فشل الطبقة المسيطرة على وسائل العنف ووسائل المعيشة، وضاقت أحوال الناس واللجوء للعنف. وعلى ما يبدو أن الطبقة المتحكمة اقتصادياً وسياسياً نسيت دروس التاريخ. ومن ينسَ التاريخ يكرره، كما يقول الأمريكيون.
* كاتب وأكاديمي