الشخصية المبادرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تخطف الكثير من الأنظار في بيئات العمل الشخصية المبادرة، وهي الشخصية التي تبادر طواعية للإنجاز وحل المشكلات ومن دون انتظار دعوة من أحد. يسميها الغربيون (proactive)، وهو الموظف أو المدير المدلل عند مسؤوله المباشر، لأن تلك الصفة تكاد تكون من أهم المهارات التي يتحلى بها الإنسان في بيئات العمل.

وكلما ارتقى المرء في السلم الإداري زادت مشاغله، وتقلص وقته، وصارت حاجته أكبر لأن يحيط نفسه بالشغوفين بروح المبادرة. مشكلة أولئك الذين نتوسل إليهم لإنجاز أمور هي في صلب عملهم واهتماماتهم تكمن في أنهم لا يدركون أن الاستمرار باللامبالاة أو انتظار صدور الأوامر يبعدهم عن دائرة المقربين من كبار المسؤولين. ومن بديهيات التقرب «المهني» من المسؤولين تحلينا بروح المبادرة الدائمة، فهناك من يقصر مبادراته بالعمل على أمور شخصية تنفعه، مثل تولي إدارة فعالية معينة تضيف له وجاهة اجتماعية، أو المشاركة في دورة خارجية ليس لهدف التعلم، بل لمنفعة مرتبطة بالسفر، لكونها في مكان سياحي جاذب.

المبادرون هم الذين يغلب على أطباعهم اليومية المبادرة في كل شيء تقريباً، فهم الذين يلتفت إليهم المسؤولون حينما يقعون في مأزق. وروعة المبادرة أن فيها فرصاً عدة يمكن أن يثبت من خلالها الفرد أنه كفء لتولي زمام الأمور أو مهام إشرافية أو إدارية متعددة، ولذلك فالأقل مبادرة هو الذي ينتظر الفرص، وحالة الانتظار تحجب عنه فرصاً ثمينة للتطور أو الاحتكاك بخبراء في مجالاتهم. وليس كل عمل بحد ذاته مفيداً، فالمبادرة في عمل يفيد الإدارة، والنجاح فيه قد يفتح لنا آفاقاً رحبة في التعاون مع إدارات أخرى، يكتشف الآخرون مهارات أخرى خفيّة فينا، وربما يسمع السوق عن ذلك المبادر فتنهال عليه العروض الوظيفية.

في كتابه الشهير والرائع «العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية» يضع ستيفن كوفي المبادرة على رأس جميع العادات السبع التي تجعل المرء ناجحاً في حياته، وهي بالفعل كذلك، ففي ثنايا المبادرة دعوة للآخرين لاكتشاف رغبتنا في القيام بمهام عدة، فكم من شخص حصل على عرض لطالما انتظره لتولي مسؤولية إدارة أخرى خارج إطار صلاحياته، وبعد مبادرته وجديته ورصيده الحافل، نال فرصة قيادتها! في القطاع العام قد يتهرب بعض المسؤولين من المهام الإشرافية، على اعتبار أنها ليست ذات مردود مادي، غير أن العاملين في القطاع الخاص يشعرون أنها فرصة لإبراز القدرات، وربما الارتقاء إلى مناصب أعلى، فكم من مسؤول «ذابت» إدارته لاعتبارات مرتبطة بتقليص النفقات أو انتفاء الحاجة لها، ولم ينقذه سوى تلك الإدارات التي قبِل الإشراف عليها على مضض، فكانت المنقذة له في الاستمرار على رأس عمله.

ويمكن أن نقيس الشخصية المبادرة عبر تأمل إلى أي مدى يبادر هذا الشخص، هل المبادرة سلوك مستمر، أم موسمية أم مصلحية؟ ويعرف المبادر بجديته في إنهاء المهام المطلوبة على أكمل وجه، فهو يدرك أن جودة العمل هي سمعة الإنسان ورأس ماله الحقيقي، فما أكثر من «يثرثر» ويعد بإنجازات ليس لها وجود سوى في خياله أو وعوده الكاذبة. ويعرف المبادرون من المرحلة العمرية، فإذا ما كان شاباً ومبادراً فذلك مؤشر جيد، فما أن يكتمل عقد خبرته حتى يمكنه أن يترجم مبادراته إلى حلول أو قرارات أكثر فعالية. أما إذا كان المبادر مستمراً في عطائه رغم سنه المتقدمة فهذا دليل أكبر على قوة تلك المهارة التي يمكن الاستفادة منها.

ولا نقصد بالمبادر ذلك المسؤول الذي عوّد مرؤوسيه على أن يقوم بالعمل نيابة عنهم، لأنه بذلك يعودهم على التراخي، وربما يتعمدون التكاسل حتى يهب مديرهم بمبادرة تغرقه في تفاصيل العمل وتشغله عن دوره الإشرافي الأوسع نطاقاً. مشكلة المسؤول إذا «غاص» في التفاصيل أنه لن يجد متسعاً من الوقت للأمور الكبرى أو الشائكة التي تحتاج عقل المدير وقدراته.

ولا ننسى أن الكثير من المبادرين وُئدت حماستهم عندما تحطمت طاقاتهم على صخرة الواقع الذي لا يقدر المبادرين.

كثير من الموظفين يفشلون في أول اختبار للكشف عن مدى فاعليتهم في العمل، عندما يخفقون في الاستمرار بروح المبادرة. والخبرة المتراكمة مع المبادرة من أكثر ما يقرب المرء من دوائر صنع القرار ومن مسؤوليه المباشرين، ذلك أن الدوام هو ميدان عمل، وليس سوقاً للكلام الإنشائي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

 

Email