تحدي «شام» العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتساءل بين الحين والآخر: هل نقرأ؟ وماذا نقرأ؟ وما حجم ما نقرأ؟ وما أثره؟ والإجابة عن الأسئلة تحتاج قياسات واستطلاعات لا أملك من مقاليدها سوى ملاحظة ما يدور حولي، وسؤال من أعرف، والخروج بملحوظات قد تخطئ أو تصيب؛ لأنها لا تعتمد سبل القياس الضامنة لنتائج حقيقية.

والحقيقة أن ملاحظاتي تصيبني بخيبة أمل، حيث مفهوم القراءة الذي يسير لدى البعض بات مقتصراً على قراءة محتوى الـ«سوشيال ميديا». البعض يعتقد أن اطلاعه على ما كتبه الأصدقاء وما غردت به المعارف وما علق به الغرباء هو قراءة وإثراء للمعارف وتوسعة للمدارك. بالطبع كل اطلاع مفيد، حتى لو كان المحتوى سخيفاً أو هزيلاً أو ركيكاً، شرط أن يكون المطلع واقفاً على أرض معرفية ومعلوماتية ثابتة. أما أن يكون مصدر إلهامه ومنبع إدراكه محتوى المنشور على الـ«سوشيال ميديا»، فهذا خطر داهم.

ويشاء القدير أن يسطع ضوء مبهر وسط العتمة لا يساعد فقط في إنارة الطريق، ولكن يمهده أيضاً لمستقبل أفضل وأكثر استدامة. وهل هناك ما يضمن الاستدامة أكثر من أن تكون الأجيال المتواترة قارئة مطلعة مثقفة ممتلكة لعقلية نقدية تتيح لها فهم ما يجري حولها وتفنيد ما يقال لها أو يفرض نفسه عليها على منصات هنا غير معلومة المصدر أو قنوات هناك قد تكون لديها أجندات خفية وأغراض ملتوية؟ إنها الوصفة السحرية المؤكدة لتحقيق غاية تنوير العقول الضامنة للحضارة.

لذلك جاءت كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بمثابة نفحة أكسجين نقية في وقتها تماماً، حيث قال: «مسيرة الحضارة تبدأ من تنوير العقول.. والقراءة هي نور العقل ونور الدرب نحو مستقبل أفضل لأجيالنا العربية».

الكلمات الرائعة جاءت في ختام الدورة السادسة لـ«تحدي القراءة العربي» الذي أقيم في دبي قبل أيام، وهو التحدي الأكبر والأروع في عالمنا العربي المعاصر. فأن يقرأ الصغار هو أن يضمن العرب مكانة متميزة في مسيرة الحضارة ولحاقاً بما فاتهم من فرص وتعويضاً لما أُهدِر من وقت.

«تحدي القراءة العربي» لم يعد اسم مبادرة انطلقت في عام 2015، بقدر ما أصبح طاقة نور ومصدر أمل. إنه المشروع العربي الشامل الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي، وذلك من خلال التزام ما يزيد على مليون طالب يقرأون 50 مليون كتاب خلال كل عام دراسي.

وحين تنتقل مبادرة من خانة الفكرة إلى مرحلة الفعل، ثم نرى نتائج الفعل علماً ومعرفة وإدراكاً عبر القراء، فهذا هو الإنجاز. كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لخصت الموقف. «تحدي القراءة العربي نجح في صنع أرقى ظاهرة معرفية في أمتنا العربية.. أنزل الكتاب العربي من الرفوف ووضعه بين أيدي شبابنا.. لتنهل منه العقول والقلوب.. وتضاء على هديه الدروب».

عملية إنزال الكتاب من الرفوف إنجاز ضخم. الملايين من المواطنين العرب لديهم كتب على الرفوف. ومكتبات كثيرة عامرة بها على الرفوف أيضاً. هي قابعة في مكانها منذ سنوات وربما عقود. البعض يضيف إليها المزيد على أمل القراءة يوماً ما، لكن عملية الإنزال تحققت بفضل «تحدي القراءة العربي».

وحين ترتبط كلمة «تحدي» ذات الصورة الذهنية المرتبطة بعمل ضخم قد يدفع البعض للاستسلام بديلاً عن الإقدام، والتي تحمل معنى المجابهة دون خوف بطفلة صغيرة رقيقة جميلة هي شام محمد البكور فهذا يضيف بعداً جديداً للتحدي.

ابنة السبعة أعوام لا تحمل في وجهها خليطاً من البراءة والإصرار فقط، بل تحمل سنواتها القليلة تحدياً آخر هو أفدح ما يمكن أن يتعرض له إنسان. فقد نجت الصغيرة بطلة تحدي القراءة من حادث كاد يودي بحياتها بعد ما أودى بحياة والدها، إذ أصيبت في رأسها بشظايا عدة.

تقف الصغيرة أمام الكاميرات بثقة كبيرة وكبرياء عظيمة وابتسامة طفولية بريئة. تحمل علم بلادها الجريحة. «عاكسها القدر في عمر صغيرة» كما أشار «تحدي القراءة العربي»، إلا أنها نهضت من تحت الركام لتفوح بموهبتها وثقافتها عطراً وياسميناً.

يكاد المتابع لأخبار تتويج شام وصورها وصوتها الرائع وهي تقرأ وتتكلم يشم رائحة الياسمين. ومع الرائحة الزكية يأتي الأمل، حتى ولو كان مولوداً من رحم معاناة مأساوية استمرت سنوات. وجه شام وقصتها وسنوات عمرها السبع هي الوجه الآخر لما جرى في سوريا. وهي كذلك الترجمة الحرفية لمعنى النهوض من الركام أقوى مما كان.

تحية كبيرة جداً لـ«تحدي القراءة العربي» الذي لم يعد مقتصراً على تحدي قراءة 50 مليون كتاب كل عام دراسي، بل صار غرساً لـ445 مليون أمل عربي كل عام.

 

Email