يعد الدكتور أبوبكر باقادر أحد أهم المتخصصين في العلوم الاجتماعية على المستويين الخليجي والعربي وواحداً من علماء الاجتماع الذين أثروا المكتبتين العربية والأجنبية بالمؤلفات والترجمات.
فمن يقرأ سيرته سيجده إنساناً متوهجاً ومتوثباً لخدمة وطنه السعودية، وتقديمه للعالم كبلد متنوع حضارياً وتراثياً وتنموياً، في مواجهة أولئك الذين يتناولونه بطريقة نمطية بعيدة عن الحقيقة لأغراض أيديولوجية وسياسية. إنه نموذج عجيب ومتميز للأكاديمي والمثقف العاشق للمعرفة والبحث والتنقل بين المكتبات والتعاطي مع ظواهر العصر دون التخلي عن القيم الأصيلة التي غرستها فيه بيئة النشأة والتكوين الأولى في مكة المكة.
فمثلاً تجده وسط انفتاحه على الفلسفات والعلوم الغربية وأصحابها يعود إلى حكايات العجائز المكيات ومروياتهم الشفهية. وعلى حين يقتبس في أعماله من المراجع والمصادر الأجنبية، فإنه لا ينسى الغرف من المخطوطات التراثية والمؤلفات الإسلامية القديمة وحكايات رواد الحضارة العربية الإسلامية.
يقول باقادر إن العلوم الاجتماعية استخدمت فترة من الزمن من قبل الإدارات الاستعمارية من منطلق أن العلم قوة، ووظفتها في الحصول على معلومات مهمة ذات صلة بالمجتمعات التي سيطرت عليها. وفي العقود الأخيرة بدأت العلوم الاجتماعية، بشكل عام، تأخذ مكانها ومسارها في العالمين العربي والإسلامي باعتبارها علوماً تفسيرية تقارب الظواهر القائمة، فصار لها تجليات مهمة نجدها في الدراسات الحضرية ودراسات الجريمة والأسرة والقبيلة والأقليات والحقوق وغيرها.
ويعترف باقادر أن العلوم الاجتماعية من العلوم المشاكسة عند السياسيين لأنها تنشر الأفكار الجديدة وتحث الطلائع المجتمعية على البحث والتنقيب وانتقاد الأفكار القديمة المتوارثة وتفتح أمامهم آفاقاً واسعة للتفسير والتغيير نحو الأفضل.
ومن جهة أخرى يعترف أن مشكلة بعض العرب أنه ينقل تجارب الآخر ويحاول تطبيقها على واقعه المختلف تماماً، أي دون أن يعي أن لكل مجتمع خصوصيات ومشكلات وذهنيات خاصة به، وفي السياق نفسه يرى أن الغرب لديه مراكز متخصصة وعلماء متخصصون في مناطق جغرافية وجماعات معينة تقوم بعمل دراسات دقيقة بشفافية، بينما لا توجد مثل هذه المراكز في العالم العربي، وإن وجدت فإنها تقوم بتزيين وتجميل الواقع بدلاً من دراسته وإظهاره على حقيقته.
ولد «أبوبكر أحمد أبوبكر باقادر العمودي» في مكة المكرمة سنة 1950 لعائلة من أصول حضرمية وفدت من وادي دوعن قديماً واستقرت في الحجاز، شأنها في ذلك شأن العديد من العائلات التي خرجت من تلك البقعة وانتشرت في أرجاء الجزيرة العربية ودول جنوب شرق آسيا للعمل في التجارة والدعوة والتدريس أو نهل المعارف والعلوم، فظهر منها أعلام ورواد في مختلف الميادين. كان لميلاده في مكة تأثير كبير عليه سواء لجهة ما تميز به من انفتاح وتعامل مع مختلف الجنسيات بروح متسامحة أو لجهة الورع والاهتمام بالقضايا الإسلامية والعلوم الفقهية. ولعل ما يؤكد ذلك اعتزازه بهويته وثقافته المكية بدليل حديثه المتكرر عنها في الحوارات التي أجريت معه.
ففي حواره مع صحيفة البلاد السعودية (27/3/2021) مثلاً، نجده يصف مكة بـ «محضن تجتمع فيها أطياف الثقافة الإسلامية والعلاقات الدولية العالمية في مكان واحد لتعيد تشكيلها لما يمكن أن يسمى بثقافة مكة أو ثقافة الإسلام في التسامح وتجاوز الفروقات ليصبح الجميع أسرة واحدة»، موضحاً أن «في مكة عادات وتقاليد ولغات مختلفة إلا أن سكانها استطاعوا باختلافهم وتباينهم أن يشكلوا ثقافة مجتمع واحد له هوية واحدة. هناك يشعرون أنهم ينتمون إلى مكان واحد ولهم أسلوب حياة مشترك».
ظل باقادر في رحاب مكة وشعابها، مختلطاً بأطيافها المختلفة، مولعاً بالاستماع إلى لغتها وحكاياتها، مستمتعاً بطقوسها وعاداتها وتقاليدها وأجوائها الروحانية، إلى أن أنهى دراسته النظامية في مدارسها وحصل على شهادة الثانوية العامة سنة 1967. خطوته التالية تمثلت في الانتقال إلى شرق وطنه، وتحديداً إلى مدينة الظهران، للالتحاق بكلية البترول والمعادن (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن حالياً)، حيث درس فيها الرياضيات البحتة لمدة خمسة أعوام انتهت بحصوله على بكالوريوس الرياضيات عام 1972. في إجاباته عن سؤال لماذا قرر دراسة الرياضيات؟ أجاب قائلا: «كنت أحب التأمل، والرياضيات البحتة كانت فرصة للتأمل. الرياضيات محورها الأساسي أن تثبت أن كميات مختلفة متساوية بالمطلق هذا ما جذبني للرياضيات في حينها».
بعد ذلك انجذب، باعترافه، إلى مشكلات التنمية وفكرة التغير الثقافي والاجتماعي ودور الإنسان في تغيير الأفكار وأسلوب الحياة، خصوصاً وأن «مكة مختبر كبير لهذا، فهي تعج بالأفكار والرؤى الاجتماعية والثقافية، وهذا كان رافداً لتعلقي بالعلوم الاجتماعية» بحسب كلامه. فكان قراره تغيير وجهة تخصصه في دراساته العليا. وهكذا حينما سافر إلى الولايات المتحدة لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة ويسكونسن ــ ماديسون، اختار أن يتخصص في العلوم الاجتماعية، وبالفعل أنهى مهمته ونال درجة الدكتوراه بنجاح لافت سنة 1979، ليعود إلى وطنه لبدء مسيرته العملية التي قادته إلى مناصب أكاديمية ومسؤوليات رسمية مختلفة.
فمنذ تخرجه وعودته إلى السعودية تدرج في المناصب الأكاديمية إلى أن صار أستاذاً ورئيساً لقسم علم الاجتماع وقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب في جامعة الملك عبد العزيز بجدة. يقول الذين عملوا معه في تلك الفترة أو تتلمذوا على يده أنه قام بأنسنة علوم الجامعة وسعى لنشر الثقافة من خلال الجمعيات والروابط والمنتديات، وأنجز بحوثاً متميزة أخضعها لمعايير علمية دقيقة، علاوة على تقلده منصب نائب رئيس معهد شؤون الأقليات بالجامعة.
ومن واقع تجربته في التدريس بالجامعة استرعى انتباهه وجود فرق كبير بين جيل الطلبة القديم وجيل الطلبة الجديد، فقال ما مفاده إن هم الأول كان تلقي المعلومة وامتصاصها وإعادة تكرارها، بينما بات الثاني يسعى إلى التميز والإبداع والابتكار والتماهي مع متطلبات العصر من خلال الاستيعاب والتفكير وطرح الأسئلة الكثيرة ومتابعة التجارب العالمية. وهذا، بحسب قوله، انعكس بدوره على الحياة الأكاديمية الجامعية، فصارت مختلفة عما كانت عليه في الماضي، إذ راحت الجامعات السعودية تتنافس فيما بينها للحصول على مراتب أفضل في التصنيف العالمي والمحلي للجامعات. فارق آخر بين طلبة اليوم وطلبة الأمس توقف عنده صاحبنا تمثل في أن طالب اليوم، بعكس طالب الأمس، إذا ما انتقل من مجتمعه المحافظ إلى المجتمعات المتقدمة في الغرب والشرق لمواصلة دراسته لم يعد يصاب بما عرف بـ«الصدمة الثقافية والحضارية» بسبب انفتاحه المسبق على العالم ودرايته بمظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فيها.
في 28 ديسمبر 2006 صدر قرار بتعيينه وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية الدولية، فانتقل من الحقل الأكاديمي إلى وظائف الدولة ليعمل من خلال وظيفته هذه على تصدير الصورة الحقيقية للنهضة والتنمية التي تعيشها بلاده إلى العالم الخارجي، بما في ذلك تقديم صورة حية لإسهامات الأديب والمثقف والفنان السعودي الحضارية والإنسانية.
والحقيقة أنه نجح نجاحاً مشهوداً في هذا السبيل من خلال إقامة الأيام والأسابيع السعودية في العواصم والمدن العربية والإسلامية، ومن خلال الأجنحة السعودية في معارض الكتاب الدولية، وأيضاً من خلال نقل وترجمة العديد من الأعمال السعودية المعاصرة إلى لغات أخرى بهدف تعريف الآخر بما تنبض به الحياة السعودية من أمور لا يعرفها أو لم يتسن له معرفتها.
من وزارة الثقافة والإعلام السعودية (التي رحب باقادر في أحاديثه بتقسيمها إلى وزارتين مستقلتين، معتبراً الفصل بين الثقافة والإعلام خطوة موفقة لأن لكل منهما احتياجات ومهام مختلفة) انتقل الرجل في الثامن من مارس 2006م إلى منظمة التعاون الإسلامي للعمل مديراً عاماً لإدارة الثقافة فيها.
وهنا أيضاً شمّر عن ساعديه لعمل نقلة نوعية في تلك الإدارة. وقد تجلى ذلك في قيامه بتفعيل دور الثقافة في المنظمة وجعلها من ضمن أولوياتها من منطلق أن الثقافة قادرة على صهر المسلمين في بوتقة وهوية وكينونة واحدة وتوحيد توجهات أمة شتتها الظروف ومزقتها الخلافات.
في خلال مشواره المتميز، نجح باقادر في رفد المكتبة العربية والأجنبية بالعديد من المؤلفات القيمة في مجال تخصصه الأكاديمي وفروعه. من هذه المؤلفات: «الإسلام والانثروبولوجيا» (2004)، «آفاق علم اجتماع عربي معاصر» (2006)، إضافة إلى كتب ألفها بالاشتراك مع آخرين وهي: «صورة العربي ناظراً ومنظوراً إليه» (1999)، «الأقليات: رؤى إسلامية» (2008)، «الانثروبولوجيا في الوطن العربي» (2012)، «الانثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس» (2017).
لم ينس باقادر «جدة»، المدينة التي سكنت فؤاده من بعد مكة بحكم إقامته بها، فشارك زميلته عالمة الاجتماع السعودية الدكتورة ثريا التركي في إنجاز كتاب «جدة، أم الرخا والشدة» الذي صدر عام 2006 وحقق رواجاً كبيراً، وتناول فيه المؤلفان تحولات جدة الاجتماعية من خلال الحياة الأسرية بها في فترتين.إلى ما سبق قام باقادر بترجمة عدد من الكتب الأجنبية إلى العربية وبالعكس. والملاحظ هنا هو اهتمامه بنقل إبداعات مواطناته من العربية إلى الإنجليزية. ومن ذلك أنه قام عام 1999 بالاشتراك مع «أفا هينريتشسدورف» بتحرير كتاب «اغتيال الضوء: قصص قصيرة سعودية حديثة»، وهو كتاب اشتمل على 16 قصة سعودية قصيرة.
وكان باقادر قد تعاون قبل ذلك في عام 1998 مع «أفا هينريتشسدورف وديبرا إيكرز» في تحرير وترجمة كتاب «أصوات التغيير: قصص قصيرة لكاتبات سعوديات»، الذي يعد أول كتاب باللغة الإنجليزية يخصص بالكامل للإبداع الأدبي النسائي السعودي، حيث اشتمل على 26 قصة لكاتبات سعوديات. من ضمن بحوثه الجميلة، وهي كثيرة ومنشورة في الدوريات العلمية بالعربية والإنجليزية، بحث بعنوان «حكاياتي مع عجائز مكة» أنجزه من خلال اختياره عينة من 13 امرأة مسنة من خلفيات مختلفة وطرح أسئلة عليهن حول مراحل ومناحي حياتهن اليومية في الحجاز، وكيف تأثرن وأثرن؟ وكيف تغلبن على شظف الحياة واستفدن من بحبوحتها؟ وصولاً إلى استنتاج القواسم المشتركة بينهن.
ومن الأمور الأخرى في سيرة الدكتور باقادر أنه حظي بعضوية العديد من الجمعيات، بل تولى في بعضها مناصب رفيعة. فهو مثلاً عضو الجمعية السعودية والجمعية العربية والجمعية الأمريكية والجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وهو زميل مدى الحياة بجامعة كمبردج البريطانية، وأستاذ زائر في عدد من الجامعات الأمريكية والإسلامية، كما شغل منصب نائب المجلس العربي للعلوم الاجتماعية.