مُزن الغمام

تعجز الكلمات عن وصف المشاعر العميقة التي تغلغلت في قلوب جميع الذين شاهدوا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وهو يمسح دمعة حزن هاجت تحت طيف الذكريات لوالدته الجليلة طيبة الذكر الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيّان، رحمها الله.

ولم يكد هذا الشعور يهدأ قليلاً حتى طلع علينا سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، بقصيدة ألقاها بصوته العذب العميق تحكي تلك اللحظة الإنسانية الثمينة التي عبّر فيها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن إنسانيته العالية وأخلاقه الرفيعة وهو يذرف دمعة الفارس الشجاع على والدة منحته أعظم الأخلاق، وأرضعته لبان الشرف والسؤدد والرجولة وجميع مناقب الفرسان، ليظل صاحب السمو مدرسة تُلهم الأجيال دروساً عظيمة في كرم الأخلاق، ونُبل الطباع التي ورثها كابراً عن كابر من آل مكتوم الصّيد الكرام.

يا الغيمه اللي دوى رعدك وبرقك سرى

ترى دموع الكرام أشبه بمزن الغمام

الغيم مزنه نتاجه عشب فوق الثرى

ودموع الأكرام تصنع حزن عند الكرام

بصوته الممتلئ عذوبة وفروسية يفتتح سمو الشيخ حمدان هذه القصيدة الفخمة الجليلة التي تليق بمقام والده العالي الكبير، يفتتحها بهذا النداء للغيمة التي تدوّي برعدها ويسري برقها، منذرة بنزول الغيث وإسعاد القلوب، فيقول لها:

إن دموع الكرام تشبه المزن والغيم الذي يأتي بكل خير، وتبتهج به القلوب، فإذا كان نتاج الغيم الماطر هو ما يخرج من الأرض من العشب الوفير والأزاهير التي تبهج الناظر، فإن دموع الكرام تستخرج الحزن من قلوب الكرام الذين يشاطرونها الحزن، ويتأثرون بدمع الصدق والوفاء، فهذه سُنّة الكرام الذين يعرفون قيمة دمعة الفارس الشريف التي لا تنزل جزعاً على هذا الحطام، ولا انحناءً أمام صروف الأيام، بل لا تنزل إلا تعبيراً عن موقف أخلاقي وإنساني نادر يظل عميق التأثير في القلوب والنفوس التي تعرف قيمة المشاعر وصدق خفقة الوجدان.

المرء ماضيه يبقى معه مهما جرى

تاريخ الإنسان وسط الذاكره له مقام

عينٍ لها دهر ما ذاقت لذيذ الكرى

تحقّق المستحيل وتبدع ف كل عام

إن ما جرى من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حين فاضت عينه الكريمة بالدمع هو تعبيرٌ عن عمق حضور الماضي في وجدانه النقي الأصيل، فمهما بلغ الإنسان من رفيع المنزلة فهو لا ينسى ذلك الماضي الجميل الذي صنع وجدانه ومنحه شخصيته، ومَن أحقُّ من الأمّ بخلود الذكرى في القلب النقيّ، فتاريخ الإنسان هو أغلى ما يملكه وهو عميق الحضور في الذاكرة، وهذا هو صاحب السمو ذلك الفارس المقدام الذي يواصل سهر الليل بتعب النهار، ولا يكاد يطعم لذيذ الكرى في سبيل مصلحة البلاد وسعادة العباد، ويسعى بكل قوة وعزيمة لتحقيق المستحيل وإبداع ما لا يكاد يخطر في بال إنسان.

ما طاح من دمعها فوق الخدود وجرى

الواجب الخدّ يستقبله بالابتسام

هذي دموع الكريم الطيّب اللي ظرى

على مصادم كبار المعضلات الجِسام

إن هذه الدموع التي طاحت على خدّ صاحب السمو كانت جديرة أن يستقبلها الخدّ بالابتسام، لأنها دموع الوفاء الصادق لذكرى أعظم إنسانة في قلب صاحب السمو، فمن قرأ ما كتبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في سيرته الذاتية (قصتي)، التي كانت سبباً في هذا الموقف الإنساني الشريف، سيرى حجم الحُبّ الذي تفيض به جوانحه وحناياه لهذه الوالدة العظيمة التي تركت أعظم بصمة في روحه القوية الوثّابة إلى المجد والمعالي والرحمة والإحسان، وسيلمس حجم الرقّة الوجدانية في كلام صاحب السمو الذي كان يردد بين الحين والآخر: من مثلك يا أمي؟ من مثلك يا لطيفة؟

حيث استرسل وهو رجل الدولة المهيب أن يسترسل في هذا البوح الإنساني الشفيف، وكأنه يريد أن يقول لشعبه: إن إنسانية الإنسان لا تكتمل إلا بامتلاك قلب يحب ويحزن ويحتفظ في سويدائه بالمكان الأعزّ لكل الراحلين الذين لا ننساهم أبد الآبدين، فدموع صاحب السمو هي دموع الفارس الكريم الشجاع الذي اعتاد على مواجهة الصعاب والشدائد ومصادمة العقبات الجِسام، ولا نعرف فارساً في الجاهلية أو الإسلام إلا كان رقيق القلب غزير الدمعة، وكأن ذلك جزء من طبيعة الفروسية النادرة والأخلاق الحميدة.

يوم انبرت له صواديف الزمان انبرى

لحلّها رافعٍ راياته إلى الأمام

لا يفرح الشامت اللي عنه ما حدٍّ درى

ما طاحت من القهر والعشق والّا الهيام

إن هذا الفارس الشجاع الذي غلبته الدمعة حين جرى ذكر والدته الكريمة بين آلاف الحاضرين، هو ذلك القيدوم المقدام الذي يواجه أعتى الصعاب، وحين تنبري له الصوادف والمعضلات فهو الذي يحلّها بثاقب نظره وشديد عزيمته، فهو العقيد الذي ما انحلّت له راية، وهو دائماً مرفوع الهامة يسير بعزيمة لا تعرف الرجوع، فلا يفرح الشامت ويظن أن هذه الدمعة خرجت من قلب ضعيف، يضنيه العشق ويؤلمه الهيام، ويذيبه القهر وعدم القدرة على مواجهة الحياة، فصاحب السمو هو المعروف بقوة الشكيمة وجسارة القلب وبسط الكفّ بالندى وفعل الخيرات.

طاحت على اللي حضنها كان ظلّ وذرى

كانت بداية طموحاته، ما كانت ختام

الصبح يبدا بطاريها لا منّه طرى

وإن نامت الكون كله في عيونه ينام

هذه الدمعة الغالية ما طاحت إلا تعبيراً عن الحبّ العظيم الذي يحتفظ به صاحب السمو لوالدته الجليلة في حنايا قلبه النقي الأصيل، هذه الأمّ التي كان حضنها ظِلاً ظليلاً لولدها البارّ النبيل، وكانت ذرى له يستند إليها ويفيء إلى ظلها مثل شجرة وارفة الظل، وصفها صاحب السمو حين قال: كانت أمي أجمل النخلات.

وكانت هي بداية الطموح في حياته، حيث علّمته أسرار الحياة بصبر عجيب ذكر منه الكثير في حديثه عنها، رحمها الله، لذلك كانت مكانتها هي المكانة التي لا تُدانيها مكانة، فهي أوّل شيء يفتتح به يومه وصباحه، وإذا كانت راضية ومرتاحة فالكون كلّه راضٍ، والحياة كلها في نظر صاحب السمو تسير في مسارها الصحيح، فهي الميزان الذي ترجع إليه حركة الدنيا في نظر ولدها البار الرفيق.

وصّى عليها رسول الله بين الورى

ثلاث مرات لين أسمع جميع الأنام

فرحمة الله لها من ربّ أم القرى

ولخاتم الأنبياء مني عليه السلام

ثم كانت هذه اللفتة الأخلاقية البديعة من سمو الشيخ حمدان، حيث ربط بين هذا الحب العظيم من صاحب السمو لوالدته، وبين تعاليم الدين الحنيف التي تجلّت في عظيم الاهتمام بالأمّ على وجه الخصوص، حيث أشار سمو الشيخ حمدان إلى الحديث الشهير: «يا رسول الله، مَنْ أحقّ الناس بحُسْن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟

قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك»، فكان هذا الحديث مشهوراً بين جميع الناس، حيث صار قانوناً في التعامل مع الوالدين عموماً، ومع الوالدة بوجه خاص، لينطلق لسان سمو الشيخ حمدان بعد ذلك داعياً لجدّته بالرحمة رحمها الله، مستمطراً غيث المغفرة من ربّ أمّ القرى «مكّة المكرّمة»، شرّفها الله وعظّم مقامها، مقدّماً أزكى الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوصانا بكل فضيلة وهدانا سواء السبيل.

دمع العظيم ف رحاب الأمّ يا من ترى

شعور لو جيت أبا أوصّفه شاب الكلام

ثمّ كانت هذه الخاتمة الجليلة لهذه القصيدة الرائعة، حيث يؤكد سمو الشيخ حمدان بنبرة الثقة التامة أن دمع الرجل العظيم في حضرة والدته هو شعور تعجز اللغة عن وصفه والتعبير عنه، فإذا كانت الأهوال تُشيب الرؤوس، فإن لحظات الجلال تشيب الكلام، ليظلّ هذا الشعور عصيّاً عن كل تعبير، وتبقى الدمعة الصادقة هي خير تعبير عما يموج في القلب من الحبّ والحنين لوجه الأم الرؤوم.

 

الأكثر مشاركة