الولايات المتحدة ومكر التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

قدّم الفيلسوف الألماني الشهير هيجل مفهوم «مكر التاريخ» لدراسة التاريخ بشكل أعمق وفلسفي، ويرى أن التاريخ له منطق يسير فيه باستقلالية عما يروم البشر.

وهنا يكمن المكر والذي يفاجئ به منطق التاريخ نوايا الأفراد، ويختلف هذا المفهوم للتاريخ عما يراه كارل ماركس. فهذا الأخير -تلميذ الأول- يجادل بأن الأفراد يصنعون التاريخ، ولكن من ظروف ورثوها من أسلافهم؛ ويظل ميراث الأموات كابوساً معلقاً على رؤوس الأحياء.

تشهد الولايات المتحدة صراعاً مريراً بين فرقاء سياسيين وثقافيين وطبقات اجتماعية تهدد النظام السياسي وتجعل منه مختلاً في وظائفه. ولكن هذا الصراع جزء من ميراث تاريخي تحكم واقعه الأحداث السياسية المبنية داخل النظام السياسي منذ تأسيسه.

يقول صامويل هنتغتون - صاحب نظرية صراع الحضارات - في كتابه «السياسة الأمريكية: ونذر التنافر» (1981)، إن هناك خاصية في الولايات المتحدة تجعل من عدم الانسجام والاحتراب السياسي أمراً محتوماً.

والسبب يعود إلى أن المجتمع الأمريكي أنشئ على مثاليات، مثل الفردانية، الحرية، الدستورية، والديمقراطية والتي هي في تناقض مباشر مع السلطة المؤسساتية. وأن الفارق بين المثل والمؤسسات -والكلام لهنتغتون- ينتج ما سماه «عاطفة عقائدية» تنضح بين الحين والآخر.

ويرى هنتغتون أن التاريخ الأمريكي سلسلة من هذه العاطفة العقائدية والتي تصوب مسار البلاد في إيقاع ثابت كل ستين سنة. فأول هذه الظاهرة كان في 1776 عندما قامت الثورة الأمريكية.

والتي قادت البلاد للاستقلال. وبعد حوالي ستين سنة قامت حرب المصرف في 1832، وهي حركة قادها الرئيس أندرو جاكسون لكسر القوة الاقتصادية لمصْرف الولايات المتحدة.

ورشحت العاطفة العقائدية مرة ثالثة في العصر التقدمي 1890 - 1920، لتجسير المثل مع مؤسسات السلطة.

وقاد هذه الحركة الرئيس تيودور روزفلت لكبح جماح النخبة السياسية وإعادة الديمقراطية للجماهير العريضة. واستهدفت الإصلاحات السياسية التي أحدثها روزفلت الزعامات المحلية.

وأخيراً كان الأمريكيون في موعدٍ مع انفجارٍ آخر في ستينيات القرن المنصرم؛ كان سببها انطلاقة حركة الحقوق المدنية للسود والحركة المناهضة لحرب فيتنام.

هذه آخر حالة تحدث عنها هنتغتون في العام 1981 حين نشر الكتاب. لكنه توقع انفجار العاطفة العقائدية في عشرينيات القرن المقبل، أي الحادي والعشرين. وما نراه اليوم من صراع مستفحل في الولايات المتحدة بين الأقطاب السياسية مصداقاً لما توقعه هنتغتون قبل أربعين عاماً.

إرهاصات الحالة التي تمر بها الولايات المتحدة بدأت في عهد الرئيس باراك أوباما حين تشكلت حركة حزب الشاي داخل الحزب الجمهوري. حينها كانت الحركة تمثل اليمين في الحزب.

حيث كان الجمهوريون التقليديون يسيطرون على الحزب مثل بول راين المتحدث باسم الكونغرس وميت رامني مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة في 2012.

ولكن استشْرت الحركة في جسم الناخبين الأمريكيين قبل أن تستفحل في الحزب الجمهوري. وقد نادت الحركة بتحجيم الحكومة ودورها في المجتمع الأمريكي.

هناك مجتمع سياسي في الدول والتي تحدد مسار أي دولة وأي مجتمع. وكانت الولايات المتحدة تتمتع بمجتمع سياسي قوي يقود دفة التوجه السياسي. المجتمع السياسي، ليس مجموعة من الأشخاص، ولكن مجموعة من القيم والمؤسسات والتي تصوب مسار الدول والنخب الحاكمة في البلاد.

انشق المجتمع السياسي الأمريكي، واختلفت وتعارضت القيم الجامعة للأمة، وكانت الأطياف السياسية تتصادم ولكن ضمن إطار المجتمع السياسي.

هل بروز هذه التيارات تصويب لمسار التاريخ كما قال هنتغتون، أم إنه انفلات يشي بتطورات أكبر؟ مهما كان الأمر، فإن صورة أنصار الرئيس ترامب وهم يهاجمون مبنى الكونغرس أبلغ لوحة للعاطفة العقائدية في الصدام مع السلطة المؤسساتية.

* كاتب وأكاديمي

 

Email