«حكايات أهل الفن»

زيارة المطربة صباح إلى العراق سنة 1950

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولدت جانيت جرجس فغالي الشهيرة بـ «صباح» في وادي شحرور بقضاء بعبدا في محافظة جبل لبنان في العاشر من نوفمبر 1927، وامتدت حياتها المهنية كمطربة وممثلة سينمائية وتلفزيونية وفنانة مسرحية من منتصف عقد الأربعينات من القرن الماضي حتى العقد الأول من الألفية الجديدة (رحلت في 26 نوفمبر 2014)، واستطاعت خلال هذه الفترة أن تحتل مكانة فنية بارزة على مستوى العالم العربي وتحصل على ألقاب كثيرة مثل «صوت لبنان» و«الشحرورة» و«الصبوحة»، كما قادتها شهرتها إلى نيل جوائز وأوشحة عديدة من مختلف الدول والحكومات، ناهيك عن وقوفها وغنائها على خشبات المسارح العالمية ابتداءً من مسرح أوليمبيا في باريس وقاعة كارنيغي بمدينة نيويورك الأمريكية، وانتهاء بقاعة ألبرت الملكية في لندن ودار أوبرا سيدني الأسترالية.


انطلاقتها الأولى وشهرتها المدوية بدأت في منتصف الأربعينيات، بعد نزوحها من لبنان إلى القاهرة بطلب من المنتجة السينمائية المصرية من أصول لبنانية السيدة آسيا داغر (1901 ـ 1986)، حيث شاركت في أفلام السينما المصرية ووقفت كبطلة أمام كبار نجوم عصرها، ولحن لها كبار ملحني مصر بدءاً من رياض السنباطي وانتهاء بمحمد الموجي وكمال الطويل ومحمد عبدالوهاب وبليغ حمدي وغيرهم.


بسبب صوتها الجميل وحنجرتها القوية وطلتها الجميلة، تزاحم متعهدو الحفلات من خارج مصر على بابها لاستضافتها في حفلات غنائية في البلاد العربية، من هذه البلاد العربية العراق، الذي زارته صباح للمرة الأولى سنة 1950.

وعن هذه الزيارة، ولعلها اليتيمة، كتبت مجلة الكاردينيا الثقافية العراقية ما مفاده، أن العراقيين أحبوا صباح وتولعوا بفنها ولعاً شديداً لجيلين على الأقل، فكانوا يتابعون، من خلال الإذاعات والصحف ودور السينما، أخبارها ونشاطاتها وأعمالها الفنية، مضيفة أن العراقيين متطرفون في حبهم وبغضهم للفنانين، ومستشهدة في ذلك بعشقهم لأم كلثوم حينما زارتهم عام 1946، وعدم حماسهم في المقابل لزيارة عبدالوهاب للعراق سنة 1932.


في بغداد أقامت صباح بفندق سميراميس الفخم (آنذاك) والواقع على شاطئ شارع أبي نواس الشهير، وهو الفندق نفسه الذي أقامت فيه الكاتبة الإنجليزية الشهيرة أجاثا كريستي، لكتابة روايتها «جريمة في بلاد ما بين النهرين»، وما أن علم العراقيون بوجودها في الفندق البغدادي حتى تزاحموا أمام بوابته.. مجموعة تصرخ «ماذا تريدون؟» فيأتيها الجواب من المجموعة الأخرى هاتفة «نريد رؤية صباح».


وهكذا كانت جموع العراقيين لا يفارقون ضيفتهم في تجوالها وزياراتها في أنحاء بغداد، ومنها زيارة قامت بها إلى «مدرسة عادل الأهلية»، التي كانت وقتها من أفضل مدارس العراق الابتدائية، للقاء مديرتها اللبنانية الأصل «مدام زهور عادل»، زوجة المواطن العراقي الدكتور أنيس عادل الذي أسس المدرسة سنة 1932م، علماً بأن مدام عادل باعت المدرسة سنة 1969م للمربية فيكتوريا اسطيفان، وعادت إلى لبنان بسبب وفاة زوجها.


لم تكن زيارة صباح لهذه المدرسة بسبب الأصول اللبنانية لمديرتها فحسب، وإنما أيضاً بسبب اهتمام مدام عادل بالفنون بصفة عامة وبالفن الموسيقي بصفة خاصة من منطلق أن الموسيقى تهذب النفوس وتسعدها وتروضها، بدليل أنها أعطت للموسيقى حيزاً كبيراً من أنشطة مدرستها واختارت لتدريس آلاتها بعضاً من كبار موسيقيي العراق مثل الأستاذ جميل بشير (1920 ــ 1977)، ناهيك عن تشجيع طلابها وطالباتها على عمل الأوبريتات الغنائية المتقنة وتقديمها من خلال تلفزيون بغداد في بواكير إرساله سنة 1957، وبالمثل ولذات الأسباب أولت مدام عادل اهتماماً كبيراً بالفن التشكيلي عبر استعانتها في الستينيات بالرسام المعروف سامي الربيعي لتدريس المادة بمدرستها، وعبر تشجيع طلبتها من خلال عرض رسوماتهم في المتحف الوطني للفن الحديث (تمّ تدمير المتحف وسرقة محتوياته مع احتلال وتدمير العراق عام 2003).


واختتمت الكاردينيا تقريرها بالقول (بتصرف): «إن لقاء صباح بمدام عادل كان له وقع كبير على نفوس العراقيين. فكلتا الشخصيتين كانتا بحاجة لبعضهما البعض، حيث إن صباح أرادت أن تضفي على شخصيتها، من خلال زيارة المدرسة البغدادية، صورة الفنانة الحانية والمحبة للأطفال، بينما أرادت مدام عادل الصارمة تربوياً، من خلال استقبالها لصباح والاحتفاء بها، أن تقول إن الحياة في مدرستها ليست جافة وسلطوية كما يشاع وإنما تحفل بمساحة من الوداعة والفرح والحبور».

Email