هل في الأخبار السيئة متعة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

علمت أن أصدقاء لي على السوشيال ميديا استطاعوا أن «يكتموا» إلكترونياً كلمات سلبية لا يريدون سماعها أو قراءتها في حساباتهم، واضعين بذلك حداً لوصول الأخبار السيئة إليهم، تلك التي تسبب صداعاً لهم ولأسرهم وتصيبهم بالقلق، فرحت في الحقيقة لوجود هذه الخاصية، التي على بساطتها كنت أجهلها، فما الذي يريده الإنسان من وصول هذا الكم غير المتخيل من الأخبار السيئة، حاملة له الكدر وضيق النفس والوساوس؟ 

دين مكاي، أستاذ علم النفس بجامعة فوردهام الأمريكية، والباحث المتخصص في دراسة السلوك القهري واضطرابات القلق، له رأي في هذا الموضوع جدير بالتوقف عنده، إذ يقول: «إن إقدام الناس على مشاهدة نشرة أخبار تتضمن أخبار الكوارث والحروب ومآسي القتل، شكل نذيراً بإمكانية إقبال الناس على تصفح الإنترنت، لمطالعة أخبار من النوع ذاته؛ إذ إن مشاهدة هذه الأخبار المفزعة من موقعك الآمن كـ«مشاهد يجلس مستريحاً على أريكته» ينطوي على تأثير مهدئ»، فالمرء يشعر في هذه الحالة، التي أوردها مكاي أنه يجلس آمناً مرتاحاً، رغم أن الأمور حوله مروعة للغاية، ما يعني أنه سيكون بوسعه أن ينعم بنوم هادئ تلك الليلة، وأن بمقدوره الشعور بالارتياح حيال وضعه في هذه الحياة. هو رأي رغم علميته يحتاج إلى تعمق ونقاش.

على المقلب الآخر من الموضوع، وفي السياق ذاته، لم أرَ أو أقرأ أن هنالك سلاحاً أكثر فتكاً بالأمن الاجتماعي في بلد من بلدان العالم من بث الأخبار السيئة والمضللة، التي تسبب البلبلة بين أفراد المجتمع، والتاريخ البشري مليء بالأمثلة الدالة على ذلك، ولعل من أنصع الأمثال في هذا السياق هو ما أورده الجنرال الأمريكي وليام ماير في كتابه «العذاب الصامت.. سجن بلا جدران»، فما هو فحوى مثله؟ 

يتحدث ماير عن الحرب الكورية، التي نشبت بين شطري كوريا الشمالي والجنوبي (1950- 1953م)، بعد أن كانت دولة موحدة ومحتلة من قبل اليابان، ونالت استقلالها في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وقصة كهذه باتت تاريخية، ويعلمها كثير منا، لكن الجنرال ماير تنبه إلى واحدة من أعقد القضايا في تاريخ الحروب في العالم وعكف على دراستها، وتتلخص القصة في أنه خلال تلك الحرب الكورية المذكورة جرى أسر وسجن نحو ألف جندي أمريكي في كوريا الشمالية، وأقيم لهم سجن عبارة عن مخيم، يتوافر على كل مزايا السجون لجهة المواصفات الإنسانية والدولية، ومن حيث مطابقته للقوانين ذات الصلة بالأَسر والأسير، فقد كانت الخدمات المقدمة للأسير جيدة، والمعاملة حسنة، ولم يكن يستخدم تعذيب بأي أسلوب. 

كان السجن بلا أسوار عالية كبقية السجون التقليدية المعروفة، بل كان يمكن للسجين محاولة الهروب منه إلى حد ما، لكن التقارير كانت تشير إلى عدد الوفيات في هذا السجن بالتحديد على عكس ما يحدث في السجون الأخرى، وهي لم تكن نتيجة لمحاولة فرار، بل كانت ناتجة- كما يقول الجنرال ماير- عن موت طبيعي، فالكثير منهم كانوا ينامون ليلاً ويصبحون متوفين، على الرغم من أن علاقتهم ببعضهم بعضاً كانت صداقية، وعلاقتهم بسجانيهم كانت ودية. 

أخذ الجنرال ماير سنوات طويلة في دراسة هذه الظاهرة المحيرة في وقتها، لكن في النهاية اكتشف اللغز، ويا له من لغز؛ فقد لخص استنتاجاته القائمة على كم من المعلومات والمقابلات، بنقاط محددة أجملها بالتالي: الأولى، كانت الرسائل «والأخبار السيئة» فقط هي التي يجري إيصالها إلى مسامع السجناء، أما الأخبار الجيدة/ المفرحة فقد كانت تحجب. الثانية، كانوا يأمرون السجناء بأن يتحدثوا على الملأ بذكرياتهم السيئة، كخياناتهم وخذلاناتهم لأصدقائهم أو معارفهم. الثالثة، كان كل من يتجسس على زملائه المسجونين يكافأ بعلبة سجائر، والطريف أنه لا تجري معاقبة المخالف للضوابط حينما يتم العلم بمخالفته عن طريق زميله الواشي، ما شجع الجميع أن يتجسس على الجميع، فالعمل لا يشكل خطراً على أحد.

والنتيجة المكتشفة لهذه التقنيات الثلاث المذكورة كانت السبب في تحطم نفسيات هؤلاء السجناء إلى حد الموت؛ فالأخبار «السيئة فقط» كانت تفقدهم الأمل بالنجاة والتحرر، وحديثهم على الملأ عن الذكريات السيئة كالخيانة أو التقصير والخذلان كان يفقدهم احترامهم لأنفسهم، واحترام من حولهم لهم. وتجسسهم على بعضهم بعضاً كان يقضي على عزة النفس لديهم، ليشعروا بأنهم عملاء، وهذه مجتمعة كانت كفيلة بالقضاء على الرغبة في الحياة لديهم والموت الصامت. 

هذا ما تفعله الأخبار السيئة وتلك الموجهة.

مقطع القول: لكي تقضي على مساحة الأخبار السيئة والبلبلة استمع إلى قنواتك الوطنية، ومنصاتك الرسمية، فبذلك وحده ستكون أكثر أماناً وأريح بالاً.

Email