أكتب هذا المقال من القاهرة، قلب العروبة النابض، وأنا أعيش زخم الاحتفاء بمرور 50 عاماً على العلاقات الإماراتية المصرية، من خلال الاحتفالية التي نظمتها حكومتا دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية تحت عنوان «الإمارات ومصر قلب واحد» بهدف تعزيز الروابط والعلاقات الدبلوماسية الممتدة منذ خمسة عقود بين البلدين، وصياغة مستقبل أكثر تعاوناً وإنجازاً بينهما في مختلف المجالات والقطاعات الحيوية.

لم يكن احتفالاً عادياً بكل المشاعر العاطفية الكبيرة التي تجسدت فيه، خاصة لنا نحن أبناء الإمارات الذين تلقينا تعليمنا الجامعي في مصر، فقد كان اللقاء مع رفاق زمن الدراسة الجامعية الجميل مناسبة لاستدعاء أحلى ذكريات العمر في بلد النيل الذي يفيض خيره على أبناء مصر، ويمتد ليشمل أبناء الأمة العربية كلها وشعوب العالم أجمع، مرسّخاً دورها القيادي في المحافظة على التوازن والأمن والأمل الذي ما زال قائماً، رغم الظروف التي مر بها وطننا العربي خلال العقد الأخير، ورغم الأزمات والمؤامرات التي تعرض لها.

كانت احتفالية بحجم المناسبة التي أقيمت من أجلها، وكانت إبحاراً في الذاكرة ولا أجمل منه لنا نحن الذين تلقينا تعليمنا الجامعي في «أم الدنيا» الحنون، وحملنا معنا إلى وطننا أجمل الذكريات وأروعها عنها ومنها.

«يا إلهي! من يصدق أن كل هذه العقود من الزمن قد انقضت؟» هكذا كان حالنا، نحن طلبة وطالبات الإمارات الذين درسنا في مصر، ونحن نلتقي على أرض الكنانة بعد كل هذه السنوات بدعوة من منظمي الاحتفالية للمشاركة فيها، ويجمعنا حفل عشاء، نستعيد خلاله ذكريات سنوات دراستنا، بينما صورنا، التي أغلبها بالأبيض والأسود، تتتابع على الشاشة التي وُضِعت في القاعة، لتنقلنا إلى أجواء ذلك الزمن الأجمل.

هل تغيرت أشكالنا بفعل عامل الزمن الذي لا يترك شيئاً على حاله؟ هل تفرقت ببعضنا الطرق بفعل ضرورات الحياة وظروفها التي تأبى إلا أن تفرض قوانينها على البشر؟ هل تحققت الأحلام التي أبحرت إليها سفننا وقتها أم حالت الرياح دون الوصول إلى موانئها؟ هل، وهل، وهل...؟

أسئلة كثيرة انهمرت علينا، تنوعت إجاباتها بين «لا» لدى بعضنا، و«نعم» لدى بعضنا الآخر. ثمة سؤال واحد فقط كانت إجابته «لا» لدى الجميع: هل نقص حبنا لمصر، وهل خفَت حنيننا إليها رغم هذه السنين الطوال؟ لهذا كادت الدموع تطفر من عيوننا عندما دُعينا للوقوف على المنصة في اليوم الثاني من الاحتفال لأخذ صورة جماعية، وبينما كانت القاعة تضج بتصفيق كل من كان فيها كان الشعور بالفخر يملأ نفوسنا، لأننا نحمل على صدورنا وساماً اسمه «خرّيج مصر».

«اللي يشرب من مَيّة النيل يرجع لها ثاني». هذه مقولة شعبية مشهورة لدى أشقائنا المصريين، تجسدت على أرض الواقع حقيقة لمسها كل من زار مصر، أو عاش فيها فترة من الزمن، وأولهم نحن الإماراتيون الذين درسنا في مصر، ذلك أن مصر «وصية زايد» والد الإماراتيين ومؤسس دولتهم، وصاحب الفضل، بعد الله تعالى، على كل حبة رمل من رمال الوطن إلى يوم الدين، فهو القائل: «أوصيت أبنائي بأن يكونوا دائماً إلى جانب مصر، وهذه وصيتي، أكررها لهم أمامكم، بأن يكونوا دائماً إلى جانب مصر، فهذا هو الطريق لتحقيق العزة للعرب كلهم.

إن مصر بالنسبة للعرب هي القلب، وإذا توقف القلب فلن يُكتَب للعرب حياة». تلك كانت وصية الشيخ زايد، عليه رحمة الله، لأبناء الإمارات، ومن أحقّ بأن نحمل، نحن الإماراتيين، وصيته في قلوبنا من زايد الذي أحبته مصر مثلما أحبها؟

لقد كنت شاهداً على حب مصر وأبنائها للشيخ زايد، عليه رحمة الله، أثناء زيارته التاريخية لها في شهر مارس من عام 1988م، بعد فترة غياب فرضه ظرف سياسي لا يمكن إخراجه عن سياقه التاريخي وقتها، ورأيت كيف استقبل الشعب المصري الشيخ زايد، طيب الله ثراه، بكل الحب، كأنهم يستقبلون أباً فاض بهم الحنين إليه، كما رأيت كيف جاب الشيخ زايد، عليه رحمة الله، أرض مصر من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، كأنه ابن عائد إلى حضن أمه بشوق ولهفة.

كانت زيارة تاريخية لم أشهد لها مثيلاً في زيارات الشيخ زايد، عليه رحمة الله، الرسمية للدول العربية وغير العربية، ومشاركاته في القمم العربية والخليجية وغيرها، على مدى عقدين من الزمن، قمت خلالهما بتغطيتها تلفزيونياً عن قرب.

«هنا القاهرة» قلب العروبة النابض. وها نحن نعود إلى نيلها لنشرب منه مرة أخرى فنجده عذباً زلالاً كما شربنا منه أول مرة، وكما سيبقى دائماً، مؤكداً أن كل من شرب من ماء النيل لا بد أن يعود إليه.