رفاه نفسي في عالم فقد عقله

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبدو عبارة «الصحة النفسية» متناقضة تماماً مع أوضاع العالم اليوم. هي أوضاع متواترة تصيب الجميع باعتلالات نفسية عديدة. لم تعد الأزمات مجرد أوضاع اقتصادية ضاغطة هنا أو صراعات تتفجر بين الحين والآخر هناك. تحول العالم إلى قرية صغيرة على ما يبدو لم يكن كله تحولاً رائعاً. الجوانب السلبية لهذا التقارب الافتراضي والمصالح المتشابكة والمصائر المرتبطة ببعضها تربكنا جميعاً. وحين تضرب، تجد في صحتنا النفسية – أو بالأحرى اعتلالاتنا النفسية- هدفاً سهلاً وأثراً أكبر.

صحة سكان العالم النفسية ليست على ما يرام. لكن الصحة النفسية لا صوت لها، لذا كثيراً ما تتوارى بعيداً عن الأنظار ومن ثم الاهتمام، إلى أن يحدث حدث جلل «يستحق» اتخاذ خطوات جريئة وسريعة بغرض الإنقاذ.

المفارقة هي أن الصحة النفسية تحتاج رعاية مستدامة حتى تظل «صحة» لا «اعتلالاً». بمعنى آخر، الحفاظ على الصحة النفسية يتطلب رعاية ووقاية مستمرتين، وليس تدخلاً آنياً للإنقاذ فقط.

في شهر أكتوبر احتفى العالم بـ«اليوم العالمي للصحة النفسية»، وذلك على سبيل التذكرة بهذا الجانب الحيوي المظلوم من صحة الناس. القلب والمخ والرئة والمعدة والمفاصل والشرايين والعظام وغيرها أكثر حظاً. فاعتلالاتها والوقاية منها تحظى بقدر أكبر من اهتمام ووعي الغالبية العظمى منا. لكن صحتنا النفسية تبقى في هذه المساحة الرمادية الضبابية المزعجة. والأسباب كثيرة. فالاعتلال النفسي عادة ينكره صاحبه أو يتجاهله حتى يتمكن منه تماماً. كذلك يفعل محيط المعتل نفسياً. «أزمة وتمر» «أنت قوي وكثيرون يمرون بأكثر مما تمر به» «لا تحتاج إلا إلى قدر أوفر من الإيمان» وغيرها من العبارات التي ظاهرها محب ومطمئن، لكن باطنها يعكس نقصاً في الوعي بأن النفس تمرض وتتألم وتشيخ وقد تموت رغم استمرار دقات القلب وعمل الدماغ.

وجانب من الضبابية التي تعاني منها الصحة النفسية يعود إلى الوصمة التي تلتصق بكل ما يتعلق بأمراض النفس والعقل. هذا العام، تطرقت منظمة الصحة العالمية بشكل واضح إلى الوصم والتمييز الشائعين في أغلب المجتمعات تجاه المريض النفسي.

مديرة إدارة الصحة النفسية وتعاطي مواد الإدمان في منظمة الصحة العالمية الدكتورة ديفورا كاستيل تحدثت قبل أيام عن الوجوه المتعددة للوصم في الصحة النفسية. قالت: «كثيراً لا تربط الوصم بكيفية تعاملنا مع بعضنا البعض. لكن هذا جانب واحد فقط من القضية. فهناك مشكلة مستترة تتمثل في الشعور بالعار الذي ترسخه المعاناة من اضطرابات الصحة النفسية. ولذلك، علينا أن نطبّع الحديث عن الصحة النفسية واضطراباتها المتعددة، لأن الوصم هو السلسلة التي تصل بين حلقات اضطرابات الصحة النفسية كلها». وأشارت إلى أن كل أسبوع يحمل معه تحدياً جديداً لصحتنا النفسية الفردية والجماعية، من النزاعات إلى الأمراض وتغير المناخ التي تستدعي التعامل مع صحتنا النفسية بأشكال جديدة من المرونة.

ولا يخفى على أحد أن الصحة النفسية في العديد من الدول العربية تعاني معاناة مضاعفة. فبالإضافة إلى عبئها المرضي، فإنها حائرة بين الإنكار والتجاهل واعتبارها رفاهية خارج متناول اليد والميزانية وقدرة القطاعات الصحية، ناهيك عن اعتبارها والعدم سواء في حالات الصراعات المسلحة والأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بملايين العرب في دول عدة.

التقديرات العالمية تشير إلى أن 11 في المئة تقريباً من سكان الأرض يعانون شكلاً واحداً على الأقل من أشكال المرض النفسي، وأن الغالبية العظمى من هؤلاء يعانون الاكتئاب وأشكالاً متعددة من التوتر.

عربياً، تشير استطلاعات متفرقة أن نسبة من يعانون من الاكتئاب تصل إلى 30 في المئة، مع مؤشرات تدل على ارتفاع النسبة أكثر من ذلك في دول مثل تونس وفلسطين والعراق وسوريا.

آثار الوباء، ثم الأزمة الأوكرانية وظلالها الاقتصادية الثقيلة، وأزمات المناخ مضاف إليها نصيب الأسد الذي تحظى به الدول العربية فيما يختص بالصراعات والتوترات يعني أن صحة العرب النفسية ليست على ما يرام.

لكن لحسن الحظ أن عدداً من الدول العربية قطع شوطاً جيداً في مجال الصحة النفسية. خطوات وإجراءات وسياسات عديدة يتم اتخاذها في كل من الإمارات ومصر مثلاً في هذا الشأن. فبين تخصيص الموارد المادية والكوادر الطبية وحملات التوعية والعمل على مواجهة الوصمة ودمج قضايا الصحة النفسية في المناهج الدراسية تبدو المؤشرات إيجابية ومبشرة. والحقيقة أن نموذج الإمارات نقطة مضيئة في طريق تعزيز الصحة النفسية للمواطنين والمقيمين. فبين سياسة وطنية شاملة لتعزيز الصحة النفسية تم إطلاقها في عام 2017، وخدمات الرعاية والدعم المنزلي وفي المستشفيات وإعادة التأهيل، وإدماج الواقع الافتراضي في التشخيص والعلاج ومحاربة الوصمة وغيرها، تسير الإمارات على طريق الرفاه النفسي المرجو للجميع.

Email