الخصائص السكانية وخارطة التفاعلات العالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بشكل متزامن، أعلنت أخيراً السلطات المعنية في كل من أستراليا وألمانيا واليابان، الترحيب باستقبال أعداد متزايدة من العمال المهاجرين المهرة. بالنسبة لأستراليا، لسنا عموماً بصدد توجه مستحدث.. فهذه الدولة القارة، شأنها شأن ما يعرف بالعالم الجديد، غنية بالموارد الطبيعية البكر التي تعد بإمكانات التوسع العمراني وفرص التطور الاقتصادي، ولا يبدو أن حاجتها للأيدي العاملة، والانتعاش والمدد السكانيين سوف تتدنى في أي أجل منظور. ما يمكن اعتباره جديداً في النداء الأسترالي الراهن، ويتقاطع مع ما يتوخاه القطبان الاقتصاديان الأرسخ في العالم القديم، ألمانيا واليابان، هو التركيز على ميزة «المهارة» في العمالة الوافدة. المعنى هنا أن لدينا أمثلة ذات دلالة على أن الحاجة الملحة لتعويض العجز في سوق العمالة ساقت، أو في طريقها إلى سَوْق، القوى الصناعية المتقدمة نحو تخطي المنظور التقليدي للعمالة المهاجرة، الذي كان لا يتوقف كثيراً عند شرط الخبرة والمهارة.

هذا تحول فارق في التعامل مع قضية الوفرة والندرة، الموصولة بواحد من أهم عناصر الإنتاج في حركة اقتصادات عالم الشمال.. تحول يقول صراحة إن هذه الاقتصادات أمست مدعوة إلى استجلاب العناصر المهاجرة، لسد النقص في مجالات العمل الشاق، جنباً إلى جنب مع مجالات العمل بالغة التخصص.

لحين طويل من الدهر، كان الشمال المتقدم يلجأ إلى طرق التفافية، لإغراء المتميزين من أبناء الجنوب، كالطلاب النابهين المبتعثين لديه أو العلماء الذين أفلتوا من ربقة «التخلف التقني» وحققوا نتائج مبهرة في بلدانهم الأم، لأجل الانتقال كلياً إلى عواصمه والانخراط في مؤسساته ودواليبه الاقتصادية. ومن المعلوم أن هذه الطرق أسهمت إلى حد كبير في تغذية أحوال المتقدمين، والإبقاء على الفجوة الحضارية بعامة في غير صالح أهل الجنوب. أيضاً يعلم أهل الذكر، كيف أن قضية استنفاذ خبرات عالم الجنوب كانت، ولا تزال، موضوعاً للشكوى والاستنكار ومحاولة التخلص من أحابيلها، بين يدي المحافل واللقاءات الموصولة بالبحث عن علاقات متوازنة بين أهل الشمال والجنوب.

عملية اقتناص المهارات هذه، شابها أحياناً أيضاً نوع من التبجح، حين حاولت بعض دول الشمال بيان أنها بفعلتها هذه إنما تتفضل على علماء الجنوب، كونها تعرض عليهم نمطاً من الحياة يفوق بكثير ما ينتظرهم في بلدانهم. ولم يفطن الجنوبيون للعواقب السلبية لهذه العملية على برامجهم وطموحاتهم التنموية، إلا بعد أن أوقعت في شباكها عشرات الآلاف من صفوة المتخصصين والخبراء.

ظاهر الحال اليوم أن الدول المتقدمة تخلت عن آليات تصيد المهرة الجنوبيين على نحو فردي أو جماعي محدود، ولم تعد متحرجة من الإفصاح عن الأعداد المرغوب في استقطابها منهم. ففي ألمانيا، أظهر مقياس العمالة في ربيع هذا العام أن النقص في عمالة القطاعات الصناعية وصل إلى نحو 320 ألف عامل متخصص وأكاديمي.. وجراء ذلك «اضطرت نصف الشركات الألمانية لتقييد أنشطتها. وعليه، فإن نصف السكان تقريباً يعتقدون أنه لا بد من تعزيز استقبال ذوي الكفاءات والخبرات من الخارج وفقاً لإجراءات يسيرة».

هذا التوجه موجود ويتعاظم بالفعل في معظم الدول الغربية على جانبي الأطلسي.. ولا يصعب تصور الاستجابة له ومرونة التعاطي معه من أبناء الجنوب، أقله بسبب التواصل التاريخي، بمحتوياته الثقافية والسياسية والاقتصادية واللغوية والأكاديمية، الذي تأسس بين الجانبين في العهد الاستعماري. لكن دخول اليابان على هذا الخط، مسألة لافتة إلى أبعد الحدود. وفي الخاطر أننا إزاء نموذج مغاير عما ألفته تفاعلات العلاقات الدولية بين شعوب الشمال والجنوب.

في نقلته الحضارية النوعية المذهلة، استعان «كوكب اليابان» بكل شيء تقريباً من الخارج، وذلك باستثناء العنصر البشري. وبعيداً عن التفاصيل، فإن المطلعين على هذه التجربة، بما فيها من عزلة نسبية ونجاح متفرد في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، لا بد لهم من الإقرار بأن الطلب الياباني على العمالة الأجنبية، يمثل حداً فاصلاً بين زمنين وأسلوبين في التعامل مع عوالم الآخرين.

الأرجح، أننا من الآن فصاعداً، سنتعامل مع الشخصية اليابانية، وقد أصبحت أكثر انفتاحاً على ثقافات الهجرة. وكلمة السر في ذلك هي انخفاض معدلات المواليد وارتفاع معدلات الشيخوخة بين السكان، تماماً مثلما هو الحال في دائرة الغرب.

Email