يعتقد مؤلف هذا الكتاب أن العالم قد سقط في أيدي التافهين، دون الحاجة إلى اقتحام سجن الباستيل كما حدث في فرنسا، ولا إلى حرق «الرايخشتاغ» كما حدث في ألمانيا، ولا إلى إطلاق رصاصة واحدة من البارجة الروسية «أورورا» باتجاه اليابان كما حدث أثناء الحرب الروسية اليابانية.
«لا تقدم لنا»فكرة جيدة«من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً». هذا ما يقوله ألان دونو، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة «كيبيك» بكندا، في كتابه «نظام التفاهة» الذي ترجمته إلى اللغة العربية وعلقت عليه الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري، أستاذة القانون الخاص بكلية الحقوق في جامعة الكويت.
قبل التعرض لمضمون الكتاب، جدير بالتنويه أن المترجمة بذلت جهداً كبيراً، ليس في ترجمة الكتاب فقط، وإنما في كتابة مقدمة له وصل عدد صفحاتها 66 صفحة، بالإضافة إلى الهوامش، تحدثت فيها عن الكاتب والكتاب، كما تحدثت عن ترجمتها له، ولماذا تترجم تحديداً هذا الكتاب الذي تقول عنه إنه: «كتاب متعب، من حيث الموضوع ومن حيث الأسلوب معاً».
أما ألان دونو فيقول في مقدمته إن «التفاهة تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري: إنها تحيلنا إلى أغبياء».
يقول ألان دونو في ختام مقدمته إن تعبير «نظام التفاهة» فقد المعنى الذي كان له في الماضي، عندما كان يصف قوة الطبقة الوسطى، إذ صار الآن يعني سيطرة الأشخاص التافهين، باعتبارها حالة سيطرة خلقتها الأشكال التافهة ذاتها.
بينما تقول الدكتورة مشاعل الهاجري في ختام مقدمتها إنه وإن كانت الغلبة الآن هي للأذواق المنحطة بسببٍ من شيوع التفاهة في حياتنا، إلا أنه يمكن جداً ألاّ تكون هذه إلا مجرد مرحلة.
ولكنّ في الأمر ضرباً من التنبؤ بالمستقبل، الذي لا يليق إلا بكاساندرا، التي كانت في الأساطير الإغريقية ابنة بريام ملك طروادة ومحبوبة أبولّو، ولكن ما إن حصلت على تلك الملكة حتى سخرت منه. كان انتقام أبولّو خبيثاً؛ لقد جعل الناس يكذّبونها دائماً، رغم أن جميع تنبؤاتها صحيحة. صارت كاساندرا النبيّة التي لا يصدقها أحد.
يقع الكتاب في أربعة فصول، هي: المعرفة والخبرة، والتجارة والتمويل، والثقافة والحضارة، وثورة إنهاء ما يضر بالصالح العام.
ويستفيض الكاتب في كل فصل من الفصول، ضارباً على ما يقول أمثلة من المجتمعات الغربية، وكأنه يشن حرباً على النظام الرأسمالي الذي يعيش فيه، رغم أننا نعيش في عصر تلاشت فيه هذه التقسيمات وأزيلت الحدود بينها، إلى درجة أن افتتاح مطعم وجبات سريعة مثل «ماكدونالدز» في موسكو، أواخر القرن الماضي، شكّل حدثاً جماهيرياً واقتصادياً وإعلامياً وثقافياً فاق أحداثاً كثيرة أخرى في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط الفكرة التي قام عليها.
يتحدث ألان دونو في الكتاب عن حكم «الأوليغارشية» الذي يجنح إلى الطغيان والفساد، كما يتحدث عن «الليبرالية الجديدة» التي تدعو إلى عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، وإلى التحرر من القوانين والعادات والتقاليد، وتحجيم أدوار الحكومات إلى ما يسمى «دولة الحارس الليلي» التي لا تتدخل في قوانين السوق، ولا تفرض ضوابط أخلاقية.
يرى ألان دونو أن النفاق صفة ملازمة لنظام التافهين. هذا يذكّرنا برواية الكاتب التشيكي الشهير ميلان كونديرا «حفلة التفاهة». يورد كونديرا في الرواية قصة كاذبة كان يرويها ستالين لمستشاريه المقربين. تقول القصة إن ستالين قرر ذات يوم أن يذهب إلى الصيد. ارتدى معطفاً رياضياً قديماً وانتعل حذاء تزلج وتنكب ببندقية صيد طويلة واجتاز ثلاثة عشر كيلومتراً.
عندئذ، شاهد أمامه طيور حجل جاثمة على شجرة عدّها فوجدها أربعة وعشرين طيراً، لكنه لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة! أطلق النار عليها فقتل منها اثني عشر طيراً، ثم عاد إلى منزله وأخذ اثنتي عشرة طلقة واجتاز مرة أخرى الثلاثة عشر كيلومتراً ليجد نفسه أمام طيور الحجل لم تزل جاثمة على الغصن ذاته. أطلق عليها واصطادها جميعاً.
ربما يتبادر إلى الذهن، عندما تقع عين القارئ على عنوان الكتاب، أنه يتحدث عن السوشيال ميديا ومشاهيرها، لكن الحقيقة الصادمة أن الكاتب يتحدث عن جامعات غربية عريقة في أمريكا الشمالية وأوروبا، وعن أساتذة وأكاديميين يعملون فيها، يسهمون في بناء نظام التفاهة وترسيخه في العالم.
لذا يلاحظ القارئ أن أسلوب الكتاب صادم، يشبه صرخة احتجاج من أكاديمي ومفكر غربي على من كنا نعتقد أنهم فوق التفاهة.
ليس غريباً أن نرى التفاهة تنتشر من حولنا، لكن الغريب هو أن نرى كل هذا الاحتفاء بها.