لتحيا العربية ويسقط سيبويه!

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يدري الإنسان في هذه المرحلة المضطربة من الزمن، ما الذي عليه مواجهته والتعامل معه بالحجة والمنطق، أو بالصمت الإيجابي، وترك الأمور والهروب من وجهها إن أمكن، كأضعف الإيمان؛ فكل الجبهات مفتوحة على اتساعها أمام البشر جميعاً بلا استثناء، بمقدور أي منهم، متى أراد أو رغب، أن يدخل الجبهة التي يختارها، ليبدأ معركته الخاصة بالأدوات التي يمتلكها، وبالشعارات التي يريد فرضها وإشاعتها غصباً، أو يموت دونها، بما أنه حر هو اليوم في تبنيه لأية فكرة، وحر في التشريع لتحقيقها بالطريقة التي يراها، رغماً عن أية قيمة فطرية أو أخلاق أو سلوك أو منطق عقلاني، يردعه أو يمنعه ويصده عن انتهاج هذا المنحى أو ذاك.

يلاحظ في السنوات الأخيرة، أن بعضاً منا، نحن في العالم العربي، أصبح أكثر جرأة من الأول، في تناوله لموضوعات كانت ولا تزال موضوعات ذات حساسية، وتحمل رمزية معينة، بل إن بعضها يحظى بمكانة تكاد ترقى إلى دائرة التنزيه، ولذلك أسباب واضحة، يعلمها هو علم اليقين، ويعلم أيضاً الأسباب التي جعلتها تحظى بهذه المكانة المعتبرة دون غيرها من الموضوعات. من تلك الموضوعات اللغة العربية، لغتنا، ليس فقط لأنها مكون رئيسي من مكونات الهُويّة العربية والإسلامية، بل لأنها تعني لنا أبعد من ذلك وأعمق بكثير، وهي منذ أن برزت، منذ آلاف السنين، بين اللغات الأولى في جنوب جزيرة العرب، وهي تمتلك حوائط صد قوية تمنع اختراقها، والعبث بانساقها وإشاراتها، ونظامها الداخلي الذي يجعلها قوية متماسكة، وجزلة، وجذابة، وتمتلك سحرها الخاص في البيان، وسر تفوقها - عند من يعلم باللغات - على باقي لغات العالم، مما نحترم ونقدّر، لعلمنا أن ثمة حكمة في اختلاف اللغات والألوان بين البشر، يساوي آية اختلاف الليل والنهار؛ فقد ورد في القرآن الكريم، المرجع الأول للغة العربية: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)..الآية. 

لقد حاولت جاهداً فهم كتاب عنوانه يحمل تنازعاً غريباً هو (لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه) لمؤلفه شريف الشوباشي، الصادر عن مؤسسة هنداوي سي آي سي بلندن، لكني عييت، على الرغم من قلة صفحاته فهي لم تتعدَ 150 صفحة؛ فالمؤلف الشوباشي يسرد الكثير من الأسباب التي جعلته يطالب بتحديث اللغة وتطويرها، ودعوة كهذه لا اعتراض عليها، كون اللغة معطى اجتماعياً يتطور بتطور المجتمعات البشرية التي تستخدم اللغات عربية كانت أو غيرها من اللغات الأخرى.

ويضرب مثلاً على التطوير الذي يسعى للمطالبة به، باللغة الإنجليزية التي يتحدث بها البريطانيون، بعدما أخذها عنهم الأمريكيون وطوروها بحيث أصبحت لهم إنجليزيتهم الخاصة بهم، والمختلفة عن اللغة الأم التي لا يزال البريطانيون يستخدمونها حتى اليوم. وهذه قد لا نختلف فيها معه إلى حد ما، وهي نقطة قابلة للنقاش. ويكتب الشوباشي قائلاً: إنه قرأ الموسوعة البريطانية المعروفة (ألمناك) ولم يجد اللغة العربية من اللغات الحية التي أوردتها تلك الموسوعة الشهيرة، كما يقول، وفهم من هذا الغياب للغة العربية في تلك الموسوعة، أنها اعتبرت اللغة العربية ليست من اللغات المتداولة بشكل يومي بين الشعوب العربية، وعليه، فإنها أغفلت ذكرها، أما بقية لغات العالم فهي مذكورة، كونها لغة للتداول اليومي، خلافاً للعربية، كما يقول الشوباشي، التي يقتصر استخدامها على المراجع والكتب الدينية فقط لا غير.

وفي هذا ظلم كبير للغة العربية، التي هي لغة الأدب والعلم، فجميع الكتب والمخطوطات العربية التي تحدثت عن الآداب والفنون والعلوم في اكتشافاتها، في العصور القديمة، كانت باللغة العربية. المراد من قول الشوباشي هو أن اللغة العربية عاجزة عن أن تكون لغة العلم، أو لغة العصر، وهذه تهمة خطيرة ولا تجوز، تكذبها الحقائق الملموسة؛ فاللغة العربية ليست عاجزة، إذ ثمة جامعات عربية معروفة، ترجمت المواد الطبية إلى العربية وهي اليوم تدرسها لطلبتها. ويدافع الشوباشي عن نفسه أمام بعض من تناولوا طروحاته الغريبة والصادمة، بقوله: إنني لا أطالب بإلغاء النحو، إذ لا تستقيم لغة من دون قواعد. لكن يعود ليطالب (بإلغاء المثنى من لغة التخاطب، وإلغاء نون النسوة) وغير ذلك، ويسمي ما يريده (مجرد اجتهادات). ويرفض ما سماه الشوباشي (قدسية اللغة) ويجيز المساس بها، ليقول في موقع آخر (إن اللغة ليست شرطاً من شروط الإيمان، إذ لا يمكنك أن تطلب من الأجانب معتنقي الإسلام الجدد أن يتعلموا اللغة العربية). 

وبعد: فإني أشفق على الكاتب المتحمس شريف الشوباشي، بعدما لاقى ما لاقى في دعوته الغريبة لتطوير اللغة العربية بالطريقة التي اقترحها وسعى إلى تعميمها، فلأكن مع الذين خذلوه في دعوته هذه، مفترضاً فيه حسن النية، وأفترض أنه لا يريد النيل لا من الثوابت ولا من اللغة ولا من غيرها من الخصوصية المجتمعية. لأكن مع من قال هو فيهم: (ما أصابني بخيبة أمل هو نكوص الكثير من أصحاب الأقلام التنويرية الذين من المفترض أن يحاربوا معركتهم في مواجهة الاتجاه المحافظ وتيارات الانغلاق، فقد هنأني بعضهم في الحجرات المغلقة، ثم لاذوا بالصمت الرهيب خارجها، إيثاراً للسلامة).

Email